المناظر التي بثتها الفضائيات عن النجف الأشرف مرعبة جداً وخصوصاً لشخص مثلي عاش طفولته فيها وعرف أحياءها القديمة: العمارة والحويش والبراق والمشراق، كما كنت اتردد على المنطقة الأكثر فقراً في أطراف النجف والتي كانت تسمى الشوافع، والأحياء الأكثر غنى مثل حي السعد وحي المعلمين ... وربما ان ما كان موجوداً في الستينات ومطلع السبعينات أفضل مما هو موجود الآن بعد سنوات الـظلم وثم الدمار بعد احتلال العراق.
النجف فقيرة ومدمرة حالياً، وهي ليست كذلك من قبل. فالتاريخ يخبرنا ان هذه المدينة كانت من أغنى المدن العراقية في القرن التاسع عشر، وكانت هي وكربلاء تجتذبان مختلف أنواع الناس، والنجف كانت ومازالت من دون سلطة دنيوية واضحة على شئونها، وهذا يندرج حتى في أيام الزعامات الدينية الكبرى. فعندما تأسس منصب «المرجع الأعلى» في منتصف القرن التاسع عشر، واعتلى هذا المنصب الشيخ مرتضى الانصاري كانت النجف في قمة مجدها. وبعد ذلك تسلّم المنصب مراجع عدة، آخرهم السيد محسن الحكيم ومن ثم السيد الخوئي وحالياً السيد السيستاني. وفي كل الحالات لا توجد سلطات رسمية (دنيوية) للمراجع، وكانت سلطتهم الروحية هي الأساس والالتزام بإرشاداتهم يقوم على الطواعية فقط.
غير أن الالتزام الطوعي لم ينفع النجف والمدن المقدسة الاخرى في كثير من الاوقات. ففي القرن التاسع عشر يحدثنا التاريخ ان كثيراً من القبائل العربية وكثيراً من الهنود ومن آسيا الوسطى تحولوا إلى المذهب الشيعي، وانتقل عدد كبير من هؤلاء إلى النجف وبقية المدن المقدسة في العراق، ونقلوا معهم عادات وممارسات وطقوساً كانوا يمارسونها قبل أن يتحولوا إلى المذهب الشيعي.
ولأن المدن المقدسة لم تكن تحت سيطرة رسمية للمرجعية لم يستطع الفقهاء السيطرة على الاعداد الهائلة، كما لم يستطيعوا الوقوف أمام كثير من العادات والتقاليد التي تم ادخالها في ممارسات وطقوس المذهب الشيعي. وعندما حاول بعض المراجع التصدي لعدد من هذه الظواهر كانت الحشود التي تلتزم بالأمور طواعية في الأيام الاعتيادية تخرج لتتحدى أي رأي يخالف هذه الطقوس.
الحال الجماهيرية ارتبطت بالمدن المقدسة، وكانت هي السبب أيضاً في المذابح التي ارتكبها الجيش العثماني ضد الكربلائيين في منتصف القرن التاسع عشر عندما رفض الشباب المسيطر على المدينة السماح للوالي العثماني بدخول المدينة. وفي زماننا عشنا لنشاهد كيف تجتاح الحال الجماهيرية الأراضي المقدسة ويحل الدمار من دون ان يستمع هؤلاء الشباب لرأي المرجع الأعلى، وهو ما اضطر السيستاني إلى الشروع في مسيرة جماهيرية مضادة لإنهاء الدمار الذي كان ينزل على النجف.
وإذا كان الوضع غير مقبول بسبب عدم إنشاء مؤسسة رسمية للمرجع الأعلى لحماية المدن المقدسة، فإنه آن الأوان لتحويل النجف إلى ما يشبه الفاتيكان، وأن تتسلّم المرجعية دورها بشكل رسمي، وليس روحياً فقط، لإدارة شئون النجف وشئون المدن والأحياء المقدسة الأخرى لكي لا يتكرر ما حدث أخيراً وما كان يحدث منذ القرن التاسع عشر. فالنجف وغيرها من المدن تستحق ان يكون لها «حامي» ولا أفضل من السيستاني للقيام بدور «حامي المدن المقدسة» في الوقت الذي يعتلي فيه منصب المرجع الديني الأعلى.
(ملاحظة: تسلم أمس عالم الدين العراقي (البحريني - الاصل) السيد محمد رضا الغريفي مسئولية الاشراف على الروضة الحيدرية - مرقد الامام علي (ع) - ممثلا عن المرجع الديني السيستاني، وندعو الله ان تكون بداية لانتقال صلاحيات الاشراف على المدينة ايضا الى المرجع الاعلى)
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 723 - السبت 28 أغسطس 2004م الموافق 12 رجب 1425هـ