تبدو حاجة التيار الإسلامي الشيعي إلى جمعية جديدة تنافس «الوفاق»، ملحة واستراتيجية، حتى لو كان الوضع مربكا في المدى المنظور. لكن ربما يجدر التفكير إن كان من الأجدى أن تقود التأسيسات الجديدة كفاءات عضوة أم غير عضوة في «الوفاق»، وهذا لايعني حرمة الانشقاقات بأي حال، خصوصاً بعد فشل «الوفاق» في استيعاب تنوعها. وهذا ما ستقاربه حلقة الغد، مع تركيز على جمعية العدالة والتنمية، فيما تقرأ حلقة اليوم الحالة في بعدها الأعم.
تبرز أهمية تعدد التنظيمات من كون التنافس في العمل السياسي، كأي نشاط آخر، ضرورة ودافع لا يستغنى عنه من أجل التطور، بل إن التفرد وقيادة الأمور من طرف حزب سياسي واحد يمكن أن يقود الدولة (أو القطاع الذي تمثله الجمعية الواحدة) إلى الهاوية، كما فعلت أنظمة الحزب الواحد الأيديولوجية أو القبلية في بلاد العرب وروسيا وشرق أوروبا...
وليس بعيدا عن المنطق، القول إن واحدية «الوفاق» واحتكارها القرار السياسي لتيار كبير، يعتبر نفسه نصف البلد، أمر قد لا يساعدها ولا يضطرها إلى تطوير أدائها.
طوال الفترة الماضية، ترفعت «الوفاق» - في أحيان كثيرة - عن مشكلات الناس، وضربت بآرائهم ومشكلاتهم وأولوياتهم المعيشية عرض الحائط، بما في ذلك آراء قياديين وكفاءات محترمة. ولسان حال «الوفاق» يقول للناس والكفاءات: «ما لك إلا الوفاق، إلى أين ستهرب؟ لا بديل غيري».
بيد أن وجود جمعيتين أو ثلاث (وليس خمسين جمعية بعدد الصناديق الخيرية) مفيد جدا لـ «الوفاق»، وقد يجعلها أكثر استماعا للناس والكفاءات التي بح صوتها من دون أن تجد كثير من أفكارها طريقا للمناقشة داخل إدارة «الوفاق»، دع عنك تنفيذها.
صحيح أن استمرار «الوفاق» في تجاهل رؤى كثير من أعضائها أمر وارد، لكنها يمكن أن تتحول، في حال التعدد، إلى حال شبيه بتلفزيون البحرين، الذي لا يطالع برامجه حتى مذيعه، بينما كان الناس مجبرين على مشاهدته، حين لم تكن هناك بدائل.
إن التعدد يعطي قيمة أكبر لرأي الناس والكفاءات، فإذا لم يجد هؤلاء ما ينشدونه في «الوفاق» سيذهبون إلى منافسيها.
وفي أي نظام ديمقراطي فإن مصالح الناس وآراءهم وليس أولويات القيادات فقط هي الأساس للتحرك، وهذا ما لم تهتم به «الوفاق»، إذ باستثناء الاعتناء بالملف الدستوري، وهو أمر مطلوب وحسن، فإنها احتقرت واستصغرت عمليا كل القضايا الأخرى، واعتبرت كل صوت ينادي بالاهتمام بملف الخدمات والإسكان والتعليم والصحة والفساد والبلديات والتمييز... الخ، «يميّع» القضايا، ويحرفها عن مسارها. هذا هو بشكل أو آخر موقف «الوفاق»، أعني خطابها العملي، وليس بالضرورة مقولاتها الكلامية.
وقد وجهت انتقادات حادة إلى نشرة «الوفاق» الشهرية بسبب افتقادها الأسس المهنية، بل ويرى البعض أن بعض ما ينشر معيب، ويعكس صورة غير حسنة عن أكبر جماعة معارضة. بيد أن هذه الملاحظات وغيرها تذهب سدى وكأنك تحدث نظاماً عربياً متكلساً وفاقداً لادارة الاصلاح.
إلى ذلك، فإن التعدد قد يكون مفيدا في الطريق إلى وضع لبنات مؤسسية متينة. في الوقت الراهن لا تحظى أطر «الوفاق» ولجانها بأهمية في اتخاذ القرارات الصعبة، بما في ذلك قرار المشاركة والمقاطعة الذي اتخذ من طرف نخبة مختارة على أسس غير شفافة.
وحديثاً، وحين رغبت إدارة «الوفاق» في تشكيل هيئة استشارية، أصدرت قرارا فوقيا لم تتم مناقشته داخل أجهزتها، وحين هب أناس كثر ينتقدون التعيين وعدم وضوح آليات الاختيار، فإن الإدارة تجاهلت ذلك ونظّرت للتعيين، كما نظرت حكومة البحرين لتشكيل مجالس الشورى المعينة.
من المتوقع أن يفرض تأسيس جمعيات منافسة استحقاقات جدية على صعيد تثبيت أعراف حزبية داخل «الوفاق»، بما يعطي وزنا لأطرها التنظيمية التي مازالت بدائية، على رغم مضي أكثر من ثلاث سنوات على التأسيس، ووجود أفكار خلاقة يمكن لو طبقت أن تقود إلى ما هو أفضل على الصعيد التنظيمي.
في جانب مهم آخر، فإن وجود جمعيتين شيعيتين أو ثلاث، قد يقلل من لجوئها إلى القيادة العلمائية في كل صغيرة وكبيرة، بما في ذلك المسائل الثانوية والشخصانية، وهو الأمر الذي يحجم من المؤسسية ويعطي بعدا أكبر للرمزية.
وقد حاولت القيادة الدينية غير مرة النأي بنفسها عن التفاصيل، إلا أنها تجد نفسها في أحيان كثيرة في معمعة التفاصيل، وربما تكون طرفا فيها، وهو أمر يضر بالطرفين: «الوفاق» كحال مؤسسية، والمرجعية التي تدرك أن أدوارها أكثر رحابة من أن تنحصر في دعم هذه الجمعية أو تلك.
وفي الواقع فإن بعض القيادات داخل «الوفاق» تسعى إلى تكريس الحال الرمزية كفاعل أساسي في اتخاذ القرار، وليس مساعداً في بلورته فقط، فذلك يصب في صالحها مستقبلا، باعتبارها أيضا حالة رمزية، وقد يقوض لها في فترة من الفترات امتلاك ناصية القرار. وبالتالي فإن تأسيس مراكز قوى مقننة في «الوفاق» قد يضر بموقعها الرمزي.
ولعل في وجود جمعيتين أو ثلاث، مساعدة للمرجعية الدينية في تبني خطاب مشابه للخطاب الذي يتبناه المرجع الديني الأعلى في العراق السيدعلي السيستاني، الذي يردد ليل نهار أن المرجعية «حالة أبوية»، تشمل الجميع، وليست طرفا، لترجح رأي على آخر، داخل المعترك السياسي التكتيكي.
إن تعدد الجمعيات الملتزمة أو التي تدعي التزامها بالقيادة العلمائية (يدعي مقتدى الصدر التزامه بقيادة السيستاني)، سيساعد العلماء - إن رغبوا - على رفع غطائهم عن قرار «الوفاق» والجمعيات المنافسة لها.
ويمكن التذكير هنا بقرار المقاطعة الذي لم تكن القيادة الدينية تتبناه، لكنها لم تعلن رأيا ضده، وربما ساعدها التعدد على الوقوف محايدة في مسائل تكتيكية كهذه. وهذا يعفي المرجعية من تحمل أخطاء غيرها.
وأذكّر هنا، بأن الحوارات التي واكبت تأسيس جمعية «الوفاق»، كانت مدركة منذ البداية أن لا يكون الشيخ عيسى قاسم والشيخ عبدالأمير الجمري والسيدعبدالله الغريفي وغيرهم من المؤثرين، أعضاء في «الوفاق»، وأن من الأفضل أن يشكلوا مظلة لتيارهم الواسع، تمتد لتشمل الجميع، بما في ذلك التيارات التي لا تؤيد «الوفاق». مظلة يمكن أن تنطلق في ظل رعايتها نشاطات متعددة، وربما «متضاربة»، ذلك أن المرجعية الاب الحاني لكل من ينتسب إليها.
إذا، ربما يكون في تأسيس جمعيات أخرى خير للمرجعية الدينية أيضا، التي يمكن أن تضطلع بدور أكبر على الصعيد الوطني، ذلك أنها حالة غير حزبية، وهي فوق التشظيات في الطائفة، وقد يساهم ذلك في جعلها طرفا يحظى بمزيد من القبول في أوساط التيارات الأخرى في البلد.
وفي الواقع، فإن ما يقال عن الحاجة إلى التعددية السياسية مع وجود «الوفاق»، ينطبق أيضا على الواجهة الدينية التي تمثلها جمعية التوعية الإسلامية، التي منع وجودها أي ظهور حقيقي لجمعية إسلامية شيعية أخرى عابرة للقرى، و لا يعرف مصير جمعية الهداية التي سعى إلى تأسيسها عدد من أهالي الدير وسماهيج، والتي جمد نشاطها بطلب من التوعية الإسلامية، ظنا منهم أن في الواحدية خيراً.
على صعيد آخر، يمكن ملاحظة أن التيار الإسلامي السني مُمثل في جمعيات عدة: كبيرة مثل «الأصالة» و«المنبر الإسلامي»، وأخرى صغيرة مثل «الوسط العربي» و«الشورى». وهذا مفيد للناس والكفاءات كما أشرنا. ومفيد للمواطنين ذاتهم الذين تمثلهم هذه الجمعيات.
ومع الإقرار هنا بأن تركيبة البلد، وطبيعة المصالح التي تشكلت في العقود الثلاثة الأخيرة، جعلت من الفصائل السنية ميالة، بل ومتبنية في معظم الأحيان، للرأي الرسمي، فإن تعددها أفادها على صعيد العلاقة مع الحكم. فوجود حال إرباك مع السلف مثلا، لا تعني خلافا مع الطائفة السنية، ذلك أن السلف ليس إلا فصيل واحد، ولا يمثلون إلا أنفسهم. بينما موقف واحد تتخذه «الوفاق» يدفع ثمنه الشيعة كلهم (أو جلهم)، من دون التجاهل أن وراء ذلك الاستهداف في كثير من المواقع سعياً حكومياً منظماً واعياً ومستمراً.
ثم إن التعدد السني يمكن أن يساهم في كسر الصورة النمطية عن هذه التيارات، من أنها تابعة بشكل أعمى للسلطة، وهو ما يلعبه «الوسط العربي» في المسألة الدستورية... ويمكن أن يساهم التعدد الشيعي في كسر الصورة النمطية عن المواطنين الشيعة في مخيال السلطة والسنة، بل وفي مخيال الشيعي الآخر.
والسؤال الذي يطرح الآن، يتعلق بالتالي: هل يمثل تشكيل جمعية العدالة والتنمية، التي يسعى نزار البحارنة وآخرون إلى تأسيسها، الإطار المطلوب لتحقيق الأهداف المذكورة أعلاه، أم إنها ستكون ضد ما يأمل مؤسسوها، بحكم التوقيت الحرج وما يقال عن استئناف الحوار بين السلطات الرسمية والتحالف الرباعي بشأن المسألة الدستورية؟
العدد 722 - الجمعة 27 أغسطس 2004م الموافق 11 رجب 1425هـ