هناك انطباعات متناقضة وانقسامية ازاء الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر واتباعه تسود العراقيين. واذا كانت بعض اطراف الحكومة العراقية المؤقتة تعتبر ميليشيا جيش المهدي مجرمين، فإن الناس هنا لا يعتبرونهم كذلك. فقراء مدن «الخطأ السياسي» يعارضون تلك الانتقادات الموجهة لجيش المهدي ويقولون إن أعضاءه يريدون تحسين حياة فقراء الناس. ولعل هذا متوقعا من فقراء مدن «الخطأ السياسي»، تلك المدن التي انتشرت على حواف واطراف المدن الكبيرة ولاسيما العاصمة بغداد، مثل مدينتي الثورة والشعلة. فمدينة الثورة التي تحول اسمها ايام النظام السابق برغبة من حاكم العراق المطلق الى مدينة صدام، ومن ثم تحول اسمها شعبيا بعد سقوط النظام الى مدينة الصدر. ينحدر سكان هذه المدينة في معظمهم من مدن الجنوب العراقي: العمارة والناصرية والكوت والديوانية والبصرة، نزح معظم سكانها الاوائل هربا من شظف العيش وممارسات الاقطاعيين الذين هيمنوا على الحياة الاقتصادية في المناطق الزراعية، ومع ارتفاع اعداد السكان في هذه المناطق الزراعية، وبالنظر لجشع الاقطاعيين فقد تم حرمان هذه الاعداد المتزايدة من السكان من الحصول على فرصة عمل، ومن ثم جاءت موجات فيضانات الانهر لتشكل بدورها عوامل دافعة للهجرة من الريف الى المدينة، فالفيضانات التي كانت تجتاح هذه المدن في اربعينات وخمسينات القرن الماضي كثيرا ما كانت تدمر المنازل الطينية للفلاحين في هذه المدن، وتجعل العائلة التي تعاني اصلا من ضخامة حجمها من جانب، وقلة دخلها الاقتصادي بل وانعدامه في احيان كثيرة تفكر بترك مرابعها والهجرة الى المدينة ولان المدينة تعني بالنسبة إلى الكثيرين العاصمة تحديدا، فكان الخيار المفضل للمهاجرين من الريف يتجه صوب بغداد.
فنشأت مدينة الثورة وسواها من مدن الحواف في اطراف بغداد، وهي مدن نقلت بداية حياة الريف الى المدينة حيث بنيت المساكن فيها من الطين وكانت عبارة عن صرائف تتسع لسكن العوائل الكبيرة والمتضخمة الحجم مع الحيوانات التي تؤمن جانباً من الدخل الاقتصادي مثل الاغنام والماعز والابقار والدواجن. وعندما حدث التغير السياسي الكبير نهاية الخمسينات بحدوث الانقلاب الذي قام به الضباط بزعامة عبدالكريم قاسم واعلنت الجمهورية في العراق، قام رئيس الوزراء قاسم بتمليك هذه العوائل الفقيرة التي ازدادت اعدادها الاراضي التي شيدت عليها صرائفها، كما قام بتوفير بعض الخدمات الاساسية فيها من ماء وكهرباء. ومع متغيرات العصر والحياة الاقتصادية في العراق استطاع ابناء هذه العوائل الالتحاق في المدارس والجامعات، كما وفر لهم الحراك الاجتماعي المتسارع المدفوع بالوفرة النفطية فرصة الحصول على مكاسب اقتصادية لاسيما في السبعينات. وقد ترتب على ذلك نتيجتان اولاهما تمدد هذه المدينة واتساع حجمها حتى صار عدد سكانها يشكل ثلث عدد سكان العاصمة ومن ثم قيام بعضهم ولاسيما بعد توالي الهجرات الجديدة من ريف المدن الجنوبية الى القيام بانشاء مدن حواف اخرى في الشعلة والزعفرانية والكمالية وغيرها.
اما النتيجة الثانية ؛ فهي بحكم التحولات الاقتصادية والسياسية على الاصعدة كافة الدولية والاقليمية والمحلية وبحكم التعليم وما جره من تنامي الوعي لدى ابناء هذه المدن، فانهم صاروا يبحثون عن دور في الحياة السياسية، وبدل ان تستوعب الحكومات المتعاقبة هذه الحاجة سعت الى تهميشهم سياسيا، وبالتالي اصبحت هذه المدن مصدرا للتوترات والتقلصات الاجتماعية والسياسية والعنفية بحكم عوامل النشأة والاجتماع والاقتصاد والسياسة والشعور بالغبن والحرمان المتأصل في النفوس، وازدادت هذه العوامل فعلا كما ازدادت الاسباب التي جعلت ابناء هذه المدن يشكلون مصدرا لكل انواع التطرف وموجات العنف وقد ساعد في تنامي تصاعد التهميش السياسي المغامرات والسياسات الخاطئة التي اتبعها نظام صدام حسين على مدى العقود الماضية من دخول الحرب مع ايران الى اجتياح الكويت وما تبعه من كوارث.
وكان من الطبيعي ان يشكل ابناء هذه المدن الرافد الرئيسي لكل حركات التمرد الاجتماعي والسياسي في العقود الاخيرة، وبسبب الميراث العائلي والديني الذي مثله مقتدى الصدر فضلا عن الدور الاجتماعي والعشائري والفكري والخيري الذي لعبه والده آية الله العظمى السيد محمد محمد صادق الصدر، إذ أنشأ الكثير من المؤسسات الخيرية التي استفاد منها ابناء هذه المدن فقد التفت اعداد كبيرة من شباب هذه المدن حول الزعيم الشاب وكانوا قد توارثوا التهميش السياسي عن آبائهم واجدادهم ليجدوا فرصتهم في المشاركة العالية الحركة سواء على الصعيد السياسي والاجتماعي والديني بعد الزلزال الذي ضرب العراق في ابريل/ نيسان من العام الماضي، وهكذا برز التيار الصدري قوة كبيرة يتميز بأن غالبية عناصره من صغار السن تلتف حول زعيم شاب يمتلك ميراثاً كبيراً لعائلة شكلت عنواناً للثورة في مراحل متعاقبة ليس بعيدة عن اذهان الاجيال المتعايشة في العراق.
ثوريون وليسوا مخربين
ونظرا للاختلاط القائم بين الوطني والسياسي والديني والاجتماعي ومواجهة الاحتلال وظروفه في الحال العراقية بعد الزلزال الذي حدث فقد شكل تيار الصدر حركة مقاومة اجتماعية وسياسية لقطاع كبير من الشباب المحروم والمهمش والعاطل عن العمل والساعي لاثبات وجوده.
وهكذا فعلى العكس من المقاتلين في الفلوجة والمدفوعين بروح عقائدية ملتهبة يبدو أن ميليشيا جيش المهدي تقاتل تحت وطأة الولاء للصدر الذي يرونه الشخص الوحيد الذي يعبر عنهم. تقول ايناس حمزة (23 عاما) إنها تناصر الصدر لأنه «يريد أن يكون مفيدا للفقراء الذين عانوا كثيرا».
ويدعي عبدالحسين شنيخر (22 سنة)، العامل البسيط في ورشة حدادة للسيارات وانتمى إلى جيش المهدي أن كل رفاقه هم أصدقاء وجيران. ويعارض تلك الانتقادات الموجهة لجيش المهدي، وقال «لسنا مجرمين بل نحن ثوريون. أميركا لم تعطنا أي شيء. نحن نريد انتخابات».
مصدر قريب من رئيس الحكومة إياد علاوي أبلغ وزراءه ان «تمرد الصدر هو تمرد عاطلين عن العمل» وأن «توافر الوظائف سيقلص كثيرا من الحماسة التي تنامت حول الصدر».
ورئيس الهيئة التحضيرية للمؤتمر العراقي فؤاد معصوم الذي انهى اعماله في وقت سابق من هذا الشهر، أبلغنا ان الحوار بين تيار الصدر والحكومة تطرق الى مسألة توفير فرص عمل لعناصر جيش المهدي بعد حل هذه الميليشيا.
الكثير من العراقيين بمن فيهم أولئك المتعاطفون مع التمرد ينظرون إلى مقاتلي جيش المهدي على أنهم هواة وقطاع طرق. يقول حسام شوكت (40 سنة)، الذي تضرر محله في منطقة الشعب المجاورة لمدينة الصدر في بغداد اثناء قيام جيش المهدي بهجوم في المنطقة: «إنهم ليسوا جيشا، إنهم مجرد حفنة من الرجال غير المنظمين».
والقناعة التي لديها اصداء كثيرة بين اوساط الناس كما في اقوال الاكاديميين ان مشاعر الحنق السائدة بين سكان مدينة الصدر ولاسيما الشباب منهم بسبب أوضاعهم المعيشية والاستثمار من جانب رجال الدين الصدريين كانت عاملا جاذبا للالتفاف حول الزعيم الشاب. ويقول الاكاديمي هاني جودت: «انهم خليط من المحرومين والمهمشين الذين لا يملكون برنامجا سياسياً ولا هدفا محددا».
سياسي شيعي من الاحزاب الدينية يتهم الصدر واتباعه بأنهم لا يعرفون ماذا يريدون، ويقول: «اثناء جولات التفاوض والحوار معهم سألناهم هل خياركم وبرنامجكم المقاومة المسلحة للاحتلال، اجابونا بانهم لا يعتمدون هذا الخيار»
العدد 722 - الجمعة 27 أغسطس 2004م الموافق 11 رجب 1425هـ