انتهاء أزمة النجف إلى الاحتواء السياسي لا الحسم العسكري يشير إلى بداية نمو لغة عاقلة (تسووية) تقرأ الواقع السياسي بتعقيداته وألوانه وأطيافه وتعدد مراكز قواه التي تتجاذب المجتمع الأهلي. فاللغة العاقلة لا تدرَّس في الجامعات وإنما هي نتاج التعامل اليومي مع الواقع. والواقع حين ينتج توازنات دقيقة يمنع ظهور لغة (قوة) قاهرة تعتمد البطش أو العنف المجنون لحل مشكلات متراكمة وتأزمت بسبب أوضاع استثنائية.
العراق الآن يمر في حال استثنائية. وما حصل فيه طوال العقود الثلاثة الماضية لا شبيه له. كذلك التطورات التي أدت إلى احتلاله وتقويض دولته يمكن تصنيفها في خانة الطوارئ. فالعراق يمر في فترة طوارئ انتجت ظواهر استثنائية لا يمكن القياس عليها بحالات أخرى تتشابه نسبياً، ولكنها لا تتطابق مع ما حصل في بلاد الرافدين. فالكل في العراق يعبِّر سياسياً عن ظروف استثنائية كانت نتاج كارثة عامة ضربت مختلف مناطق البلاد ولم تميز بين طائفة وأخرى.
هذا الظرف الاستثنائي بحاجة إلى لغة (عقل) استثنائية تلتقط تلك المفارقات التي حصلت وتعيد إنتاج المشترك بينها لإعادة تشكيل دولة جديدة ومتسامحة تجيد استخدام لغة العقل لا قوة السلاح. فالسلاح في العراق يدفع العلاقات نحو المزيد من التأزم ويمنع قيام دولة بديلة تطرد الاحتلال وتنتزع السيادة. بينما لغة العقل هي الوحيدة القادرة على تجميع بقايا وحدة عراقية تحرص على الحرية والاستقلال وتعيد دمج بلاد الرافدين في دورة حياة لها صلات قريبة وبعيدة مع دول الجوار التي عانت أيضاً من مرارات الاستثناءات العراقية.
وفي هذا المعنى يمكن اعتبار حركة السيدمقتدى الصدر واحدة من تلك الاستثناءات التي ظهرت كنتاج موضوعي لأزمة عامة ضربت كل الجهات العراقية وطاولت مختلف الأطياف والطوائف. فحركة الصدر ليست مفتعلة ولم تكن من صنع جهات خارجية ولا يمكن اختزال قواها في أنها مجرد مجموعات مسلحة خارجة على القانون. فالخروج على القانون يفترض وجود دولة قانونية وشرعية (دستورية) منتخبة من الشعب، وهذا غير موجود في العراق. وبالتالي فإن الاتهامات التي وجهت لحركة الصدر مردودة لأنها تطاول أيضاً حكومة بغداد وكل ما يتفرع عنها ومنها من هيئات ومؤسسات.
حركة الصدر عراقية، وهي نتاج أزمة عامة نتجت عن الاحتلال وتقوُّض الدولة، وهذا بدوره أسهم في إنتاج حالات اعتراض على وضع قائم مفروض بالقوة لا بالفعل. وما يفرض بالقوة ينتج بطبيعة الحال قوة مضادة. وحركة الصدر هي قوة مضادة تحتج على حالات استثنائية فرضت على العراق بالقوة. واللغة التي تعاملت بها حكومة بغداد مع تلك الحركة كانت سيئة وذكَّرت مختلف أطياف المجتمع بتلك الدولة التي استبدت بالناس وفرضت عليهم منطق القوة والافراط السياسي في استخدام العنف ضد كل المخالفين.
الآن كما يبدو، وفي ضوء انتهاء أزمة النجف نحو التسوية والاحتواء، بدأت تظهر لغة جديدة تقودها المرجعيات التقليدية في النجف وهيئة علماء المسلمين في الأنبار، وهذه نقطة مضيئة في ظلام العراق الدامس. فالزمن الآن أعاد دورته السياسية وأخذت خيوط الأزمة تتجمع في دوائر عاقلة تجيد استخدام لغة العقل في زمن السلاح.
لابد أن يعود العراق إلى هيئات أمينة يمكن أن تؤتمن على وجوده ومصيره ومستقبله بعد طول غياب عن المسرح السياسي. فهذه الهيئات التي ضربتها الشيخوخة بسبب الجمود السياسي الذي سيطر على العراق طوال ثلاثة عقود أخذت، كما يبدو من ظواهر الأمور، تستفيق مجدداً على دمار شامل أصاب بلاد الرافدين ويحتاج إلى إعادة ترميم انطلاقاً من البدء في احتواء تلك الحركات الشابة والاستفادة من طاقاتها وإمكاناتها الخيّرة وإعادة توظيفها كسواعد وعقول نابضة بالحياة في تأسيس دولة العدل والحرية والمساواة والتسامح. وكل هذا لا يتم إلا بعد طرد الاحتلال واستعادة السيادة والاستقلال.
انتهاء أزمة النجف إلى الاحتواء السياسي لا الحسم العسكري أعطى الأمل بوجود بقايا لغة تعرف أن تستخدم العقل وقت الحاجة وتقرأ الواقع بتعقيداته وألوانه التي سيتشكل منها العراق الجديد في النهاية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 722 - الجمعة 27 أغسطس 2004م الموافق 11 رجب 1425هـ