كأن «الأخلاق» هبطت فجأة على الكيان الصهيوني وخصوصاً بعد إعلان المقرر الخاص للأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية جون دوجارد في تقرير له قدمه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ان التمييز العنصري الذي تمارسه «إسرائيل» في فلسطين أسوأ مما كان عليه الحال في جنوب إفريقيا قبل سقوط نظام الفصل العنصري هناك. ففي خطوة تنم عن قلق «إسرائيل» من تصاعد قوة الدفع باتجاه عزلها دولياً وفرض عقوبات عليها، نصح المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية مناحيم مزوز، حكومة آرييل شارون بتطبيق اتفاق جنيف الرابع في الأراضي المحتلة. وفيما يشبه حملة «علاقات عامة» لتحسين الصورة الإسرائيلية بدت واضحة في الصحف العبرية، انهالت الكتابات عن «مآسي» الفلسطينيين ومعاناتهم مع جنود الاحتلال وكأن الحرب على الشعب الفلسطيني قامت بالأمس فقط!...
أجرت «هآرتس» حديثاً مع نائب المستشار القضائي للحكومة ملخيال بالاس، الذي كشف انه سيكون على «إسرائيل» تفكيك الجدار الفاصل إذا توصل الفلسطينيون إلى قرار حقيقي بوقف العمليات «الإرهابية». وأوضح بالاس انه في حال توقفت العمليات «الإرهابية» بقرار رسمي فإنه سيكون على «إسرائيل» أن تبرر وجود الجدار قانونياً مرجحاً إمكان تفكيك أجزاء منه. لكن بالاس، شدد على ان وقف «الإرهاب» ليس كافياً لتفكيك الجدار. بل ان ذلك يتطلب قراراً رسمياً فلسطينياً على غرار الرسالة التي بعثت بها منظمة التحرير الفلسطينية العام 1993 إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين. وعلقت «هآرتس» في افتتاحية تحت عنوان «السلوك على الحواجز» على تقرير صدر عن لجنة خاصة برئاسة مستشار وزير الدفاع الإسرائيلي باروخ سبيغل، بشأن التعامل مع ما وصفته بـ «الاحتكاك الخطير» (بين الجنود الإسرائيليين والمواطنين الفلسطينيين) على الحواجز.
وأوضحت «هآرتس» ان نحو ألف شكوى رفعت إلى السلطات الإسرائيلية منذ بداية الانتفاضة. ولفتت إلى ان عدداً ضئيلاً من هذه الشكاوى تم التحقيق فيه والقليل جداً منها انتهى إلى تجريم أحد الجنود. وأضافت ان التقرير أوصى ببذل جهود أكبر على الحواجز من أجل التمييز بين السكان الفلسطينيين عن العناصر «الإرهابيين». ولفتت الصحيفة العبرية من جهتها إلى ان الحواجز أنشئت لتخفيف خطر «الإرهاب»، غير انها ما لبثت أن تحولت إلى مصدر للعدائية والإزعاج. وأوضحت ان مجموعات إنسانية مدنية وضعت مراقبين على الحواجز ورصدت انتهاكات خطيرة من جانب الجنود الإسرائيليين. وأضافت ان الوثائق التي نشرت عن هذه القضية والصور التي التقطت على الحواجز تؤكد ان الجو السائد فيها يتطلب تغييرات جذرية. وهنا أشارت «هآرتس» إلى ان تقرير اللجنة الخاصة يوصي بأن تكون هناك لائحة بقواعد وتعليمات واضحة يلتزم بها الجنود خلال التعامل مع المواطنين الفلسطينيين على الحواجز. كما أوصى بضرورة تحويل كل الحالات غير الاعتيادية التي تنشأ على الحواجز إلى مسئول يملك صلاحيات أعلى من الجنود المتمركزين على الأرض. كما أوصى التقرير بحسب «هآرتس» بفرض عدد من الموانع على الجنود كاستخدام القوة أو مصادرة الممتلكات الشخصية للمواطنين فضلاً عن معاقبة وإذلال المدنيين. وأضافت ان التقرير أوصى بإجراء تدريبات تأهيلية للجنود على كيفية التصرف على الحواجز بالإضافة إلى ضرورة إخضاع القادة العسكريين لدورات تدريبية خاصة بهم أيضاً. وطالبت الصحيفة العبرية بضرورة تطبيق توصيات اللجنة مشددة على أهمية معاقبة الجنود الذين يخالفون التعليمات والقواعد المعمول بها على الحواجز.
وجاء واضحاً ألوف بن في «هآرتس» في شرح المأزق الإسرائيلي، إذ لاحظ ان «إسرائيل» بدأت تخسر «المعركة الدعائية» مع الفلسطينيين. وأوضح ان ادعاء «إسرائيل» بأن لها الحق في شن حرب ضد الفلسطينيين للدفاع عن النفس بدأ يفقد صدقيته في ظل تراجع العمليات «الإرهابية» في «إسرائيل» وارتفاع حجم الخسائر في صفوف الفلسطينيين. وأضاف ان إثارة موضوع المستوطنات في هذه المرحلة عزز من احتمالات خسارة «إسرائيل» الحرب الدعائية. لافتاً إلى ان خطط بناء مساكن جديدة في المستوطنات في الضفة بدأت تثير سخط المجتمع الدولي، كما بدأت تسمع انتقادات على الساحة الدولية للجدار لاسيما من جانب محكمة العدل الدولية فضلاً عن تحذيرات من احتمال فرض عقوبات على «اسرائيل». ولاحظ ان كل ذلك أعاد إحياء الجدل داخل «إسرائيل» بشأن هدف الحرب مع الفلسطينيين. وأوضح ان جوهر هذا السجال يتركز بشأن عدد المستوطنات التي يجب تفكيكها. فبعض الإسرائيليين أمثال الوزير عوزي لاندو على استعداد لتقديم تنازلات مبهمة والبعض الآخر مثل الوزير السابق يوسي بيلين يرغب في التخلي عن جميع المستوطنات. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون وزعيم حزب العمل شمعون بيريز فيقفان في الوسط من خلال تأييدهما التخلي عن بعض المستوطنات. غير ان بن أسف لكون هذا الجدل الداخلي لا يهم المجتمع الدولي الذي يعتبر ان الاستيطان هو جريمة بحد ذاته.
وأكد المعلق الإسرائيلي ان شارون يخشى أن تخسر «إسرائيل» معركتها الدعائية لذلك وظف خطة فك الارتباط كسبيل وحيد لمواجهة الضغط الدولي على «إسرائيل» للعودة إلى حدود 1967. وحاول إنقاذ الضفة من خلال التخلي عن غزة. ورجح انه في الأشهر القليلة المقبلة سيعرف الجميع ما إذا كان «القمار» الذي يمارسه شارون سينجح أم ان جهود رئيس الوزراء كانت متأخرة جداً. وفي حال لم ينجح شارون، يتوقع بن، أن تواجه «إسرائيل» انهياراً سياسياً على المستوى الدولي يجعل من الجدل الداخلي بشأن المستوطنات غير ذي صلة.
من جانبها، كتبت عميرا هآس في «هآرتس» مقالة تحت عنوان «بين العنف واللاعنف» على هامش الزيارة المتوقع أن يقوم بها حفيد المهاتما غاندي، إلى الأراضي الفلسطينية للدعوة إلى النضال السلمي ضد الاحتلال الإسرائيلي. وإذ لفتت هآس، إلى انه من المقرر أن يتحدث غاندي أمام الفلسطينيين عن النضال السلمي واللاعنف، أكدت ان النقاش بشأن هذا الموضوع يجب أن يجري أيضاً بين الإسرائيليين باعتبارهم قوة احتلال. ورأت انه في حال لم يحصل هذا النقاش في «إسرائيل» أيضاً فإن وقف النضال المسلح الفلسطيني لن يؤدي إلى أية نتيجة. وأوضحت ان هناك عقبتين أمام تراجع الإسرائيليين عن استخدام العنف مع الفلسطينيين. العقبة الأولى بحسب هآس، تتمثل في براعة «إسرائيل» في تبرير كل خطواتها بأنها نابعة من اعتبارات أمنية وحاجات عسكرية. مشيرة إلى ان هذه البراعة تعتمد خصوصاً على عملية غسل أدمغة الشعب من خلال إقناعه بأن كل ما يرغب به الفلسطينيون هو تدمير «إسرائيل» وان النزاع الحالي ليس له علاقة بالاحتلال للأراضي. أما العقبة الثانية في وجه إبعاد الإسرائيليين عن اللجوء إلى العنف هي المستوطنات. فآلاف الإسرائيليين لديهم مصلحة في بقاء المستوطنات لأنهم يستفيدون منها اقتصادياً. مشيرة إلى ان هذه الأطراف ستدعم الجيش الإسرائيلي مهما كانت الوسائل التي يستخدمها لوضع حد لأية انتفاضة شعبية سلمية من جانب الفلسطينيين. وإذ لاحظت في ختام مقالتها ان النضال الفلسطيني المسلح لم يستطع أن يضع حداً للمؤسسة الاستيطانية، تساءلت ما إذا كان هناك أي شيء قادر على منع الاحتلال الإسرائيلي من استخدام العنف؟
العدد 721 - الخميس 26 أغسطس 2004م الموافق 10 رجب 1425هـ