الكتابة عن هذا الموضوع فيها حذر شديد، والخوض فيه كالسير على حبل مشدود، والموضوع هو الصراع القائم بين الولايات المتحدة وإيران بشأن الملف النووي، وما يمكن أن يتمخض عنه من نتائج.
كما أن السكوت عنه أو تجاهله، خصوصاً في الدوائر الخليجية، قد يقود الى ما لا تحمد عقباه، أسوأه أن نرى مدننا في هذا الجزء من العالم وهي تشابه - إن لم تكن أسوأ - ما حدث لمدينتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان، أي الحرق الكامل، وهو حرق لا ناقة فيه لنا ولا جمل، غير الوقوع في وسط صراع له عدد من المتغيرات السريعة، التي لا نتحكم في أيٍّ من عناصرها، وأخف الأضرار أن يبقى الخليج ساحة خلفية تخاض فيها صراعات متدنية الشدة كالاضطرابات الداخلية.
إلى هذه الدرجة الأمر خطير، والملف يجب أن يفتح، فالجلوس على الحياد في عصر الصواريخ العابرة للقارات، وسقوط الحدود أو تلاشيها، وتقلص شديد لما كان يعرف بالسيادة الوطنية، هو ليس حياداً بقدر ما هو استكانة لقدر يبدو أنه شاخص للعيان.
الحرب بين الولايات المتحدة وإيران لم تعد سراً، ولها أكثر من شكل، يتمثل بعضه في ساحة العراق المشتعلة، ويتمثل بعضه الآخر في التصريحات والتصريحات المضادة بين المسئولين الإيرانيين والأميركان، ويجري صراع آخر على الساحة الدبلوماسية، سواء في مؤسسة الطاقة الدولية، أو في كواليس الدبلوماسية الأوروبية، ولا يبدو حتى الآن، أن هناك مخرجاً قريباً لها، إن لم تكن المسيرة تتوجه الى التعقيد لا الحل.
الموقف الإيراني في هذا الموضوع له وجهة نظر، فهناك تخوف حقيقي مما يحدث في العراق، على افتراض أن الولايات المتحدة يمكن أن تتحكم في العراق وتصبح بعد ذلك جارة متوسطة القوة، ويذهب الافتراض الإيراني الى أن ترتيباً سياسياً ما في العراق على الطريقة «الغربية»، هو بالضرورة تهديد لشكل الحكم في إيران. وتشير المصادر الإيرانية الى حقائق على الأرض تؤكد ما يذهبون إليه، فالأميركيون قد احتفظوا بطابور إيراني هم «مجاهدي خلق» في العراق، كاحتياطي استراتيجي للتغيير في إيران في المستقبل.
هذه المخاوف استفادت منها القوى المحافظة، ودفعت بالناخب الإيراني أن يتوجه يميناً في الانتخابات الأخيرة، بعيدا عن الإصلاحات التي ينادي بها رئيس الجمهورية السيد خاتمي وفريقه الإصلاحي.
اعتماد فكرة الخوف من «الخارج» أو الرهاب الأجنبي، كعمود فقري للسياسة في أية دولة، يعني، وخصوصاً في الشرق الأوسط، أن تتقوقع الدولة على نفسها، وتنبذ الآخر وتتقلص تحالفاتها الى درجة ألا تجد في النهاية لنفسها متسعاً من قدرة الحركة وتسهل محاصرتها بعد ذلك. لقد سعت السياسية الإيرانية في الداخل الى هذا الخوف من الخارج، فاتجه التشريع للاهتمام باعتماد لباس موحد للإيرانيين، ورفض المساواة بين الرجال والنساء، والتضييق على حرية الرأي من بين أمور أخرى، تدل على أن المعركة الخارجية تخاض داخلياً أيضاً، وهو أسوأ ما يمكن أن يتم في أي بلد، لأنه ببساطة يهيئ الساحة الداخلية بعد أن يشيع التذمر للتطلع الى الخارج، والعكس صحيح، فإن أفضل سلاح لمحاربة الخارج، هو إشاعة رضا داخلي حقيقي.
حقيقة الأمر أن التصعيد النووي الإيراني هو قضية خليجية، وعربية أيضاً، فليس من المرجح في ذهن العقلاء أن تكون القنبلة الإيرانية المفترضة هي قنبلة «إسلامية»، كما اعتقد الحالمون في وقت ما، بأن تكون القنبلة الباكستانية هي قنبلة نووية إسلامية! ستكون في أفضل الحالات إن أنتجت، قنبلة إيرانية، أي تدافع إن احتاج الأمر عن المصالح العليا لإيران، وذلك من حقها دون منازع، إلا أن المهم ألا يفكر احد في الجانب العربي أن الردع هذا يمكن أن يطال «إسرائيل»، ذاك نوع من الخرف السياسي، وان كانت الفكرة الأخيرة حقيقة مطلقة، فإن أي عربي لا يمكن أن يُسوق هكذا تسليح خطير في الجانب القريب من الخليج، على انه ضرورة عربية، حتى وان كان ضرورة إيرانية.
قنبلة إيران المفترضة يمكن أن تستخدم معنوياً للردع من قبل إيران، أي حتى لا يقترب احد خارجي، من الوضع القائم في إيران اليوم، ولكن ماذا - وهذا افتراض قائم - لو قررت «إسرائيل»، كما فعلت في الثمانينات من القرن الماضي تجاه العراق، أن تضرب المنشآت النووية الإيرانية، قبل أن تكتمل، أو هي على وشك الاكتمال؟
هنا يمكن أن نفكر في السيناريو الأسوأ حقيقة لا خيالاً، فالتصريحات القادمة من إيران (كما فعل وزير الدفاع الإيراني أخيرا) ولوح الى «شن هجوم وقائي» قبل أن تتعرض إيران الى أي هجوم، وذاك يشير ولو بطرف خفي، الى أن معركة حريق ضخم قد تبدأ، من دون سابق إنذار في المنطقة، وهي أن بدأت فلن توفر المدن الخليجية القريبة أو البعيدة بشكل مباشر، أو غير مباشر.
من هنا فإن الصراع بين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب، وبين إيران وحلفائها من جانب آخر، ليست بعيدة عن مركز الهم الخليجي، أو هي يجب ألا تكون، لأن الوقود البشري في هذا الصراع، إن فلت من عقاله، سيكون البشر على ضفاف الخليج، ومنه الضفة العربية.
هل تبادر دول الخليج لرسم خطة للتهدئة حتى لا يصل الأمر الى حافة الهاوية، وما هي آليات هذه التهدئة؟
ليس غريبا على المحلل أن يرى أن أول خطوات التهدئة في هذا الملف تبدأ بورقات الملف العراقي، فزيارة رئيس الوزراء العراقي المؤقت إياد علاوي، وان طالت معظم دول الجوار، لم تصل الى طهران، وذهب رئيس الجمهورية العراقية الى تركيا، حليفة الولايات المتحدة، إلاّ أن ذاك لا يعني أن هناك تطابقاً في الرؤية والسياسات، حتى لو كان الإثنان (العراق وتركيا) حليفين ظاهراً أو باطناً للولايات المتحدة، فهناك هامش عنوانه المصالح الوطنية، التي لا يتم التنازل عنها، ولكن أيضا لا يتم إعلان حرب مباشرة أو غير مباشرة بسببها، هذا لا ينطبق على حال إيران، فهي تريد أن تكون شريكاً فاعلاً في العراق الجديد، وهو أمر لا تقبله الوطنية العراقية، ولا رعاة العراق الجديد، حتى وان قبلته مؤقتا بعض القوى التي تريد أن تستقوي بإيران.
إيران لم تقدم بعد على وضع تصوّر نهائي لما تريده في العراق، أفضل سيناريو لها هو إيجاد حكم حليف موثوق به، وهو لن يكون غير حكم ديني، ذا نكهة شيعية، ويبدو أن مثل هذا الأمر لن يتحقق على أرض الواقع العراقي بدليل ما حدث ويحدث في النجف.
الخيار الآخر أن تكون هناك تهدئة في العراق، تخفّف أو تزيل أي تهديد لإيران، خصوصاً من تنظيم «مجاهدي خلق»، في الوقت الذي ترفع إيران يدها عن العراق، وخصوصاً جنوبه.
النقطة الاساسية في الملف هي تمكين المؤسسات الأوروبية من التفتيش على المنشأة النووية الإيرانية، من دون الكثير من التحفظ، لأن الخيارات المتاحة الأخرى ستكون أسوأ من التفتيش والتقرير فقط، إذا أكدت هذه المؤسسات أن تجهيزات إيران النووية سلمية، وجرى وضع خطط فعالة للمراقبة، أصبح دور دول الخليج أن تنشط ما أمكن لتبريد الملف الإيراني الأميركي، حماية لأبنائها من هولوكوست لا يترك أحدا، يكفي ما عانته مجتمعات هذه الدول من تدمير للبيئة بعد ثلاثة حروب مهلكة، تركت انتشار الأمراض الخبيثة فيها يتصاعد بمعدلات مرتفعة.
السؤال: هل ستواجه المنطقة في الأشهر القليلة المقبلة شتاء سياسياً قاسياً، خصوصاً بعد انتهاء معركة السباق الرئاسي الأميركي؟ قد يكون الجواب بالإيجاب.
وهل تستطيع دول الخليج أن تحدد لها موقفا واضحا غير مجامل بالنسبة إلى كل من الجارة الكبيرة، إيران، والحليف الكبير، الولايات المتحدة؟
أخطر ما يمكن أن يتم هو أن يدفن البعض رؤوسهم في الرمال، ويعتقدون أنها ثابتة وهي في الحقيقة سريعة التحرك، إلا أن نتائج التجاهل ستكون صاعقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهي لا تقتصر على تغيير أنظمة، بل يتجاوز ذلك إلى حرق مدن بكاملها، أخضرها ويابسها على السواء.
هل هذا السيناريو غير متوقع؟ لنذكر البعض أنه قبل أشهر فقط من احتلال الكويت، كان ذاك الفعل في محيط الخيال، ولكنه وقع، فهل تشبه الليلة البارحة؟
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 719 - الثلثاء 24 أغسطس 2004م الموافق 08 رجب 1425هـ