في تقرير مجلة «إيكونومست» البريطانية السنوي عن الاقتصاد العالمي في العام 2004 وضع التقرير دولة تشاد على رأس لائحة الدول الأكثر نمواً في العالم. فتشاد حققت قفزة لا مثيل لها بلغت 58 في المئة في سنة واحدة. وهذا المعدل لا يحصل عادة ولم يحصل قبل الآن في دولة من دول العالم.
تشاد تغيّرت بحسب التقرير بنسبة 58 في المئة في سنة واحدة. ويعود الفضل في هذه القفزة كما تذكر المجلة إلى اكتشاف النفط والبدء في استثماره وضخه. النفط إذاً هو السبب في مثل هذا النمو الهائل الذي وضع دولة نامية (فقيرة) على رأس لائحة دول العالم، بينما جاءت الصين في المرتبة الثامنة إذ حققت نسبة من النمو بلغت 8,2 في المئة.
إنه النفط إذاً. فالنفط تحوّل إلى كلمة سحرية، فحيث يُوجد، تُوجد المشكلات ويُوجد أيضاً النمو السريع والانتقال الخاطف من حال إلى حال. هذا ما حصل في دول الخليج سابقاً، وهذا ما تكرر أيضاً في الجمهوريات الإسلامية التي استقلت حديثاً عن الاتحاد السوفياتي السابق. وهذا أيضاً ما تشهده سلسلة دول في إفريقيا وعلى رأسها غينيا الاستوائية (نسبة النمو 23 في المئة وثاني دولة على اللائحة)، وليبيريا (نسبة النمو 20 في المئة وثالث دولة على اللائحة). وهناك أيضاً العراق (19 في المئة) وكازاخستان (10,1 في المئة) وجورجيا (10 في المئة) وتركمنستان (10 في المئة أيضاً) وأذربيجان (8 في المئة) وموزامبيق (8 في المئة).
كل هذه الدول تعتمد على النفط كمادة رئيسية للثروة، وأحياناً المادة الوحيدة التي تعتمد عليها الدولة لزيادة دخل الفرد وتحسين مستوى المعيشة. وإذا استثنينا الصين من القائمة فإن الدول التسع التي تبوأت المراكز العشرة الأولى تعتبر من الدول المنتجة للنفط وكلها تقع خارج دائرة منظمة أوبيك. فالدول حديثة العهد بالنفط وبالتالي حديثة النعمة وأيضاَ حديثة الصلة بما يُسمى النمو والازدهار ودخول عصر الرفاهية والإنفاق والاستهلاك والبذخ من دون عمل وإنتاج.
إنها نعمة النفط، وهي نعمة يجب التفكير فيها سياسياً إلى جانب النمو الاقتصادي. وباستثناء الصين عانت هذه الدول المذكورة على رأس التقرير الاقتصادي السنوي من مجاعات وحروب أهلية، وبعضها لايزال يعاني من تلك الحروب والانقسامات والانشقاقات والتدخلات الأجنبية أو التهديد بالتدخل في الدولة نفسها أو في دولة مجاورة. وفي حال مراجعة الأرشيف السياسي للدول المذكورة نجد أن دول تشاد وغينيا الاستوائية وليبيريا والعراق وكازاخستان وجورجيا وتركمنستان وأذربيجان وموزامبيق تعرضت خلال السنوات العشر الأخيرة لحروب أهلية وحدودية واقتتال قبلي ومشكلات داخلية من انقلابات وانقلابات مضادة ذهب ضحيتها الآلاف من الضحايا وآلاف أخرى من الجرحى، يُضاف إليها الآلاف من المشردين أو النازحين من مكان إلى آخر.
آنذاك، لم تكن تلك الحروب مفهومة، ولماذا تحصل؟ وما أسبابها؟ ومن المستفيد منها؟ كانت المعلومات قليلة والتحليلات غامضة، لأن المؤشرات كانت غائمة بسبب غياب الأخبار الحقيقية عن الدوافع والجهات التي تسلّح وتموّل تلك الحروب القبلية والحدودية والمجنونة. الآن اتضحت صورة الموقف السياسي، بفضل تقرير مجلة «إيكونومست» الاقتصادي. إنه النفط وشركات النفط والهيئات التي تستثمر النفط وغيرها من جهات دولية ومالية كبرى اجتمعت كلها على إزالة العقبات السكانية التي كانت تسكن مصادفة في تلك البقاع.
إنها حروب النفط (الطاقة). وحتى تستخرج تلك المادة الحيوية للاقتصاد الأميركي - الأوروبي لابد من السيطرة على الأرض أو استئجارها أو اقتلاع البشر (الفقراء والمساكين) الذين يعيشون فوقها ويرتزقون منها ولا يعلمون ماذا يوجد تحت أقدامهم من ثروات يحتاج إليها الأميركي/ الأوروبي لتشغيل آلات الصناعة وأدوات الحرب.
الصورة الآن باتت واضحة، وما قيل من كلام عن تخلف وهمجية وقبلية ومساعدات إنسانية وتدخلات خارجية كانت مجرد احتيال على المساكين للسيطرة على أرزاقهم وأراضيهم بعد طردهم منها عن طريق افتعال الحروب الأهلية والحدودية.
تشاد إذاً هي الدولة الأولى في العالم من ناحية سرعة نموها السنوي. وتشاد كما نعلم تقع على حدود إقليم دارفور السوداني. وهذا الإقليم الذي تبلغ مساحته خُمس السودان بدأ يشهد فجأة سلسلة حروب أهلية وصراعات قبلية وعمليات طرد للسكان استدعت تدخل الأمم المتحدة وأطلقت أحاسيس «إنسانية» هبّت على العالم من كل الاتجاهات والنواحي.
ربما يكون النفط أيضاً، فهو نقمة ونعمة. فالشركات المنقبة عن هذه المادة تبدأ بطرد السكان عن طريق التمويل والتسليح، وتنتهي بتدخلات عسكرية وإرسال مساعدات وبعثات إنسانية للمراقبة والاستطلاع، وأخيراً السيطرة... وبعدها تبدأ النعمة بالتدفق.
تشاد الأكثر نمواً في العالم، وهي جارة دارفور. وبين الجار والجار هناك النفط الممتد عبر الحدود. فانتظروا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 719 - الثلثاء 24 أغسطس 2004م الموافق 08 رجب 1425هـ