نذهب الى الكتابة مسلّحين بالانفصال عن سخافات وسذاجات وايقاع ما حولنا من دون أن يعني اقصاء كل ذلك وبشكل كلي لحظة الكتابة. هو انفصال مؤقت يعود أدراجه للالتحام بنا بانفصالنا انفصال الكتابة عنا.
ما يحدث ان السذاجة تتحول الى نباهة، والسخافة الى قيمة على الضد، والايقاع الى ما يتجاوزه انتظاما وصرامة، كل ذلك لحظة الكتابة.
النص فَلَتَانٌ وانضباط... وشاية على الواقع بتفاصيله المغرية على الوشاية والنميمة... ومخطئ من يعتقد ان الكتابة استئناف ضد الواقع... هي احتكام لا درجات له... احتكام لا ينتهي وذلك ما يمنحنا طاقة الاستمرار في تلك الممارسة التي لا تنتهي.
لو خُيّر الكاتب بين السهر على الجانب الانساني فيه وبين انسانية النص لانحاز الى الأول من دون جدال. لذلك يمكن ارجاع الجانب المتهتك في النص - في كثير من الأحيان - من حيث حمولاته القيمية وحتى اللغوية الى تهتك بيّن في الجانب الانساني لدى المبدع، وكلما سمت وعلت تلك القيمة تبدّى ذلك واضحا في كثير من النصوص.
تتذكر عناء قديما... الغريبة منجم أسرار وأعباء... تنتشي كلما داهمتها الحمّى، كلما تفقّدت الغرف المكتظة بالدم والحداد... ويثقلها السهر المضيء باللذة وندرة النجاة.
حدّثتْها الأرض عن نِعَم وبراءات وأحداق معلّقة في المدى البهيم... حدّثتْها عن المسالك المريبة... عن كتاب للبحر لا يقرأه الاّ الراسخون في المد... عن نساء يبدأن نهاراتهن بكنس العتبات وبما يليق بأعاصير قادمة تتضوّر خرابا واقتلاعا.
ذات مساء... رنتْ بطرْفها نحو أفق يرشح بماءين: دم، وطلّ... وعلى صفحتهما ثمة وجه ألفتْه: امرأة في التسعين تتصفّح كتاب تجا «عيدها» و«أعيادها»... محاطةٌ بالقناديل الملوّنة وتضوع منها روائح صلوات ونعناع قادر على ايقاف هذا العالم على ساق واحدة!... روائح محاريب مغسولة بالتلاوات وقباب كأنها استدراج للميادين... هي ذاتها المرأة: عرّافة الحي التي تنبأتْ بمهرجانات الطاعون التي حصدت الشطر الأكبر من الخلق!
ذات يوم همست المرأة في أذنها: ولّي وجهك شطر الأنقاض ... فثمة نعمٌ هناك... أجّلي الغوايات لوحشة ستحطُّ بأجنحة.
بدت وصية امرأة ستغادر العالم بعد طرْفة عين... ولكنها لم تفعل، اذ يهمس الناس انها قبل أن تُوارَى التراب ظل قلبها يخفق... وحين ينتشلون جسدها من الحفرة يكف عن خفقانه... استمر المشهد وقتا طويلا لدرجة دفعت شيخ المحلّة لإصدار أوامره بتكليف مجموعة لحراسة الحفرة
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 718 - الإثنين 23 أغسطس 2004م الموافق 07 رجب 1425هـ