العدد 2375 - السبت 07 مارس 2009م الموافق 10 ربيع الاول 1430هـ

السودان وتجاذب القانون الدولي مع مصالح الدول الكبرى

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عدم توصل دول مجلس الأمن إلى الاتفاق على صيغة بيان دولي يعاقب السودان ردا على قرار الخرطوم بإنهاء أعمال 13 منظمة دولية تعنى بشئون الإغاثة والصحة والتربية في إقليم دارفور يؤكد مجددا صعوبة الربط بين الجانب القانوني والمخاوف السياسية. فهذا الخلل الحاصل يرجح أن يتطور في السنوات المقبلة ويولد معضلات سياسية بين القوى الكبرى ودورها الخاص في تعديل الموازين أو تعطيل إمكانات التدخل في شئون الدول الصغيرة أو الضعيفة.

ما حصل في مجلس الأمن بشأن معاقبة السودان أعطى فكرة موجزة عن ازدواجية التعامل في القضايا الدولية وطرح على بساط البحث مسألة إنسانية لا يمكن عزلها عن السياسة ومواقع الدول الكبرى ودورها في التعاطي مع مشكلات يصعب حصرها في إطار قانوني.

الصين مثلا لعبت دورا محوريا في إفشال مجلس الأمن في إصدار بيان مشترك يدين قرار السلطة السودانية بطرد أو إنهاء عمل منظمات تنشط في دارفور تحت مسميات إنسانية مختلفة العناوين. فالصين تعاملت مع الموضوع من موقع دولة كبرى صاحبة نفوذ تقليدي في السودان ترفض التفريط به لاعتبارات إنسانية من جهة أو لاعتبارات قانونية تتعارض مع سيادة الدول وحقها في إدارة شئونها الداخلية بالطريقة التي تراها مناسبة لضمان استقرارها وحدودها.

التعارض بين الجانبين القانوني والسيادي أو الإنساني والسياسي استخدمته الصين للدفاع عن حليف إقليمي عربي وإفريقي كبير ولحماية مصالحها التقليدية في بلد واعد على المستويين الثروات والسوق. وهذا التعارض بين الإطارين ساهم دائما في إعطاء ذريعة للولايات المتحدة لاستخدام حق النقض (الفيتو) لإحباط قرارات وتعطيل بيانات حين يتعلق الأمر بإدانة سياسة حليفها الاستراتيجي في الشرق الأوسط «إسرائيل».

المسألة إذا معلقة وستبقى موقوفة حتى تتوصل الدول الكبرى إلى إعادة النظر بمواثيق ومعاهدات دولية تؤكد حق الدول في ضمان سيادتها ومنع «الخارج» من التلاعب بمشكلات «الداخل». وهذا الاحتمال ليس واردا حتى الآن باعتبار أن الدول الكبرى نفسها تعاني من مشكلات داخلية (أقليات، أديان مختلفة، مجموعات ملونة، أو جماعات أهلية غير متجانسة مع الغالبية السكانية). وتعديل صيغة «السيادة» باتجاه إعطاء حق التدخل لحماية الأقليات أو حقوق الإنسان يعني اعتراف الدول الكبرى بوجود مشكلات عندها من هذا النوع، كذلك يعني قبولها بالرعاية الدولية وتقبلها وجود قوات أجنبية في ديارها لضمان الحماية.

كل هذه الاحتمالات غير واردة الآن باعتبار أن الدول الكبرى لا ترغب في كسر موقعها الخاص في التوازن الدولي وليست في موقع الضعيف الذي يضطر لتقديم التنازلات على حساب مفهوم «السيادة» كسبا للوقت أو حماية للنظام من الأسوأ.

المشكلة ستبقى كما هي. فالدول الكبرى تتقبل القانون الدولي بشرط إلا يعرض مفهوم «السيادة» للتجاوز ويفرط بمصالحها الخاصة أو علاقاتها المميزة التي تربط هذه الدولة الكبرى بتلك الصديقة أو الحليفة. ومجلس الأمن (أو الجمعية العامة للأمم المتحدة) سيبقى يلعب دور الراعي لمصالح الدول الكبرى على خط موازن لسياسة التوافق الدولية التي تضمن المصالح من دون إخلال بالتوازن الزئبقي الذي يتأرجح بين القانوني أحيانا والإنساني أحيانا أخرى.

بسبب هذه الاعتبارات الدقيقة لجأت الدول الكبرى إلى المنظمات الإقليمية أو الهيئات الدولية الموازية لتصريف طاقاتها الخاصة من خلال قنوات تضغط على البلدان الضعيفة التي تعاني من أزمات أهلية داخلية (أقليات مثلا) أو مشكلات في التنمية (التفاوت في النمو بين المركز والأطراف مثلا). إلى ذلك لجأت الدول الكبرى إلى تشكيل هيئات ذات طابع ثقافي واستخدامها مظلات للتأثير ونشر النفوذ وضمان المصالح التقليدية من الاضمحلال بفعل التقادم الزمني. بريطانيا مثلا شكلت منظمة الكومنولث للدول الناطقة بالإنجليزية أو تلك التي كانت جزءا من الإمبراطورية. وفرنسا أيضا شكلت منظمة فرانكوفون للاعتبارات البريطانية نفسها. والاتحاد السوفياتي قبل انهياره أسس هيكلية اقتصادية - أيديولوجية (اتحاد الكومنترن) تضمن نفوذه وموقعه ودوره في أوروبا الشرقية.

من حق الشعوب إلى حماية الأقليات

أما أميركا فإنها أكثر الدول الكبرى تجريبية في حقل التنافس الإقليمي لتعزيز الموقع والدور والنفوذ على مستوى الخريطة الدولية. وبسبب البراغماتية الأميركية وابتعادها عن الأيديولوجيا وعدم وجود تاريخ أمبريالي (استعماري) قديم على غرار بريطانيا وفرنسا لجأت واشنطن إلى ابتكار شعارات «خلاقة» معطوفة على آليات «ذكية» لتمرير سياسة التدخل في العالم. في مطلع القرن الماضي طرحت الإدارة الأميركية شعار «حق الشعوب في تقرير مصيرها» ردا على الثورة البلشفية في روسيا القيصرية ولاقى الشعار الترحيب وتقبلته هيئات ومنظمات تكافح من أجل الحرية والاستقلال. واستمرت فكرة «حق الشعوب في تقريرها» تسحر الجماهير وتلقى الرواج وتكسب القلوب والعواطف إلى ما بعد العدوان الثلاثي على مصر (أزمة السويس) إذ ظهر لاحقا أن الفكرة مجرد شعار للتغطية على سياسات أخرى انكشفت معالمها في أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا.

بعد تهالك فكرة «حق الشعوب في تقرير مصيرها» انتقلت الإدارة الأميركية في سبعينات القرن الماضي إلى طرح شعار «حماية حقوق الإنسان». فالشعار براق وذكي لأنه يخاطب مشاعر الملايين من البشر وهذا ما نجح الرئيس جيمي كارتر في ترويجه أيديولوجيا لتعويض «النموذج الأميركي» تلك الخسائر التي أصيب بها جراء حرب فيتنام-كمبوديا-لاوس. ونجحت واشنطن في استخدام تلك الفكرة الإنسانية للضغط على موسكو والمعسكر الاشتراكي نفسيا ومعنويا وأخلاقيا بسبب اعتماد «الشيوعية» نظام المركزية و»ستار الحديد» ومنع الإنسان من ممارسة حقوقه وشعائره كما يريد ومن دون تدخل في حياته الخاصة. وساهمت حملات «حماية حقوق الإنسان» في إضعاف أيديولوجيا الاتحاد السوفياتي ما اضطر الكرملين لاحقا الاستجابة للضغوط الدولية والسماح لأكثر من مليون يهودي بالمغادرة والهجرة إلى الولايات المتحدة و «إسرائيل».

في التسعينات انهار المعسكر الاشتراكي وانفرط عقده بعد الانسحاب المذل من أفغانستان ما أدى إلى إعادة تشكيل خريطة دولية تنفرد الولايات المتحدة بقيادتها. إلا أن فكرة «حقوق الإنسان» لم تعد تلقى ذاك الرواج الأيديولوجي الإعلامي كما كان حالها في «الحرب الباردة» ما أعطى تلك الدوافع لإعادة ابتكار شعار تحريضي يتناسب مع سياسة الانفراد الدولي فكانت مسألة «الأقليات» وحق الأمم المتحدة في التدخل لحمايتها من الإبادة الجماعية أو الاضطهاد العنصري أو التمييز السياسي وغيرها من شعارات جذابة في بريقها الإنساني.

فكرة حق التدخل لحماية الأقليات من التصفية أو الفرز أو الطرد أو الإبادة أخذت تتطور سياسيا منذ بدء تفكك الاتحاد اليوغوسلافي وتقوض دولة الصومال ومحاصرة العراق بعد حرب الخليج الثانية في تسعينات القرن الماضي. فهذا العقد (الأخير في القرن العشرين) شهد العهد الذهبي لنمو سياسة أميركية تدخلية مباشرة سواء في يوغوسلافيا والصومال والعراق تحت مسميات مختلفة دمجت بين «حق الشعوب في تقرير مصيرها» وحق «حماية حقوق الإنسان» وحق «الدفاع عن الأقليات». فالدمج الثلاثي للمحطات الزمنية الأميركية الثلاث يؤكد نظرية الترابط بين الأيديولوجيا (البراغماتية) والمصالح ويعطي فكرة عن السياقات التدخلية وتطورها من الضغط المعنوي (حق الشعوب وحقوق الإنسان) إلى الحروب (التدخل لحماية الأقليات) مستفيدة بالطبع من أخطاء الأنظمة وانحراف السلطات أو تقلص النمو وضعف التنمية المتوازنة بين المركز والأطراف كما هو حال السودان الآن.

لا شك في أن القوانين الدولية تطورت جدا خلال مئة عام وهي أخذت تدفع المفاهيم الإنسانية من طور السيادة القومية التي ترسخت دستوريا وتعولمت منذ القرن التاسع عشر إلى طور «ما بعد الدولة القومية» وهي فكرة تحتاج إلى حقبة زمنية لتنضج قيميا وتتوضح معالمها الدستورية وحدودها القانونية.

ما حصل أمس الأول في مجلس الأمن بشأن معاقبة السودان واندفاع الصين للدفاع عن حق الخرطوم في حماية أمنها وحدودها كلها مؤشرات تدل على وجود خلل في تطبيع قرارات الهيئات والمنظمات الموازية مع القوانين الدولية الموروثة والمتعارف عليها. فالقرارات الإنسانية تحتاج إلى صلاحيات تعطيها حق التدخل، والتدخل مشروع سياسي يحتاج إلى قانون دولي يجيز اختراق السيادة... وحتى الآن لم تتطور القوانين الدولية لتصل إلى هذه الدرجة من التقدم وذلك لاعتبارات عدة منها مصالح الدول الكبرى ومخاوفها من متغيرات قد تطرأ على المعادلات الدولية في المستقبل

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2375 - السبت 07 مارس 2009م الموافق 10 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً