عشية الخميس لتسعة عشر مضين من آب، وجاء... حتى وقف على أصحاب... وقال:
أين بنو عمنا... لقد أتيت لكم برسالة
أمان من عبيد اللّه بن...
فخرج له أحمد... وقيس... وعلي...
فناداه العباس...
تبَّت يداك ولعن ما جئت به من أمانك يا...
أتأمرنا أن نترك... وندخل في طاعة...».
لو قُتل الصدر الثالث أو أُسر، وحصلت الكارثة بالنجف الأشرف لا سمح اللّه، فإن التاريخ سيكتب عن واقعة «وساطة» «عميد» الأسرة الصدرية حسين الصدر مع الزعيم الشيعي الشاب المتمرد و«الرافض» لمعادلة السلطة في بغداد، بتلك العبارات البسيطة والمعبرة.
وعندها فقط، قد يدرك البعض ما جرى حقاً في الواحد والستين من هجرة الرسول (ص) في واقعة الطف العظيمة!
كان «فقه» الناس يختلف دائماً عن «فقه» السلطة، ما لم تعتبر السلطة ما تحمله من مكانة انما هو تكليف وليس تشريفاً.
حتى لو «استسلم» الصدر الثالث، وكل اتباعه والمقربين لشروط حكومة اياد علاوي المعلنة، - والاجتماع على هذا وسط التيار الصدري الواسع الانتشار والمتعدد المشارب والنشأة مستحيل - فإن ما حصل على أبواب النجف الاشرف وفي محيط الحضرة الحيدرية والصحن العلوي الشريف لن ينساه العراقيون وشيعتهم على الاخص لقرون من الآن.
فالجرح أصبح غائرا ولن يندمل بسهولة.
والقصة نفسها ستكرر مع «الاسطورة» الجديدة التي سطّر فصولها شاب جسور ورث مدرسة «الرفض» لكل ما هو متعارف ومألوف لدى «التقليديين» من اتباع المذهب والدين - سواء صنف ذلك تحت سقف المرجعية الدينية أو السياسية - من عمه وأبيه الصدرين الأول والثاني.
لقد كان بالإمكان التعامل مع هذا الملف البالغ الحساسية بحكمة وحنكة و«تعالٍ» عن الجاه والسلطة الزمنية وخصوصاً انها مؤقتة وراحلة.
كما كان بالإمكان ان يقف البعض، ولاسيما اولئك الذين قرروا حمل «رسائل الامان» بالنيابة، موقفاً اشبه بموقف الحر بن يزيد الرياحي فيكتب لهم التاريخ ما كتب لأصحاب الحسين بن علي عليه السلام من مأثرة خالدة. لكن التاريخ يأبى لدى البعض ان يرى نفسه مكرراً على ايديهم فيعيدون رسم واقعة الطف التراجيدية ولكن بصورة كوميدية!
وهكذا تتحول النجف إلى كربلاء!
وتبدأ فصول كتابة «المأتم الحسيني» الجديد وتستمر لأربعة أو خمسة عشر قرناً آخر!
ثمة من يرى في «النخب» العراقية «عجز تكويني» بحسب تعبير الفقهاء في ممارسة الاعتدال في السياسة كما في الخطاب والا ما معنى ان يقتتل «أصحاب» الأمس وحلفاء مؤتمر لندن وصلاح الدين حتى قبل «تسلم» السيادة على كرسي الرئاسة والزعامة، فيبدأ الصراع مبكراً على من يسبق الثاني في انزاله من قطار المحاصصة السلطوية.
يقول حمزة الحسن، الكاتب العراقي الحصيف: «في الصراعات الوطنية الكبرى، في ازمنة الاقتلاع، في العواصف المزلزلة، في المنعطفات التاريخية، لا احد يسأل المدافعين عن المدن والكرامة عن شهادة حسن سلوك ولا عن عقائدهم... فالدم الذي يسيل هو خير شهادة حسن سلوك... لأن الدم يطهر... وليس الكحول والصراخ والمفاخرة والصخب وضجة الأقداح!»، ويضيف: «هذه التصنيفات لا وجود لها عند أية طبقة مثقفة في العالم ما عدا نخب عراقية أدمنت على الوصف والخانات والفرز حتى في مراحل المنعطف وساعات الحرج التاريخية...».
لقد كان بإمكان النخب العراقية التي تشكلت شيعاً واحزاباً وظهرت على المسرح السلطوي في بغداد بوجوه عدة ان تصبح مصدر قوة للشعب العراقي الخارج لتوه من عقود الكبت والاستبداد والاقصاء والتصفية لكل من هو «آخر» وان تتحول إلى ملجأ وأمان لكل من كان محروماً أو مضطهداً ابان العهد البائد، لكنها سرعان ما تحولت - لاسيما تلك المستقوية بالقادم من وراء البحار - إلى عصا غليظة تتم بها تصفية كل من هو «آخر» فيما الوطن يحترق بفعل قساوة الآخر وصلفه وعنجهيته وتعطشه للاقتصاد والضرب بقوة النار والحديد.
ان مدرسة الصدريين والتيار الصدري ربما كانت المدرسة العراقية الوطنية الأكثر اخلاصاً للعراق في وقت تلخص الوطن فيه برجل والأكثر فعلاً وتعففاً عن مظاهر السلطة والجاه والمحاصصة في زمن تقسيم الغنائم والأكثر اعتدالاً من غيرها على امتداد تاريخ مسيرتها. ولم تمارس العنف والإرهاب حتى مع جلادها وقاتل رجالاتها ورموزها في الزمن الذي كان «سوّغ» للجميع حتى الاستعانة بأدوات عنف خارجية.
هذه المدرسة التي تحملت الضيم حتى من أقرب المقربين لها وقدمت نموذجا في غاية الحكمة والاعتدال والتسامح حتى مع المحتلين وأعداء الوطن، تراها اليوم تُظلم وتُعاقَب لا على شيء سوى انها لم ترضخ لإرادة الاحتواء بالقوة وتُجبَر على الدخول في استقطاب الموت أو «الاستسلام» لتدفع ثمن استقلالها باهظاً وبحجم الوطن الشاهد والشهيد.
في الزمن الذي يزحف فيه «الفرنجة» نحو الإمام علي أمير المؤمنين وخليفة المسلمين.
في الزمن الذي يحاصر فيه «الفرنجة» ضريح امام الفقراء والجياع والمساكين.
في الزمن الذي يحاول فيه «الفرنجة» سحق الذاكرة الدينية والوطنية وتدمير الطفولة في العراق وفي بلاد المسلمين في زمن الضياع والحيرة والتردد والبؤس للنخب الدينية والسياسية العاملة بالاحتياط وانتظار «الفرج» والتواكل والتوكل على جيوش التتار والمغول الجدد.
لن يستطيع أحد قتل السيد مقتدى الصدر أو محوه من ذاكرة العراقيين أو المسلمين عموماً بكل أطيافهم وعقائدهم وانتماءاتهم حتى اولئك المساهمين بقتله عن قصد أو من دون قصد، وتحت أي راية فعلوا أو عذر التمسوا.
سيكون الصدر الثالث رمزاً جديداً لطف جديد، سيبكي العراقيين وغير العراقيين محبيه ومبغضيه
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 716 - السبت 21 أغسطس 2004م الموافق 05 رجب 1425هـ