قبل سنوات، كانت العناوين الشائعة في صحافتنا هي من ذلك النوع الذي يصر على الأسبقية دوماً: «الأول من نوعه». واذا كنتم تجيدون العد والإحصاء، ستدهشكم أرباح الشركات والمصارف التي تتصدر عناوين الصفحات الأولى لسنوات وستصيبكم بالدوار، أرباح ربع سنوية، نصف سنوية وسنوية.
لكن تذكروا جيداً انه قبل سنوات أيضاً، لم يكن للناس والحكومة من قناة للتواصل سوى الصحافة. فمن خلالها تبلغ الحكومة مواطنيها بما تريد من قرارات وخطوات ونشاط يومي. ومن خلالها يطل الناس باشكال متنوعة من الظهور: نشاطات في هذا الميدان أو ذاك، طموحاتهم الشخصية من خلال نشاطهم في مجال عملهم أو هواياتهم. حتى العمل التطوعي الأهلي كان لابد له ان يطل من خلال الصحافة لكي يعرف الناس ان ثمة نشاطا يجري. يطل المواطنون أيضاً بشكاواهم ومظالمهم الصغيرة. في النهاية ما من وسيلة لمعرفة ماذا يدور ومن الذي يقوم بهذا وذاك من النشاطات سوى الصحافة. وحتى اليوم، من النادر ان أجد نشاطاً يسير بفعالية لكن بصمت بعيداً عن الصحافة.
هل تجيدون العد أيضاً؟ كم شركة للعلاقات العامة تعمل في سوق البحرين؟ الكثير، وما من صناعة تطورت من حيث الكم في السنوات العشر الأخيرة مثل هذه الصناعة. والآن دعونا نتساءل: هل لديكم وسيلة لمعرفة ما يجري بعيداً عن الصحافة؟ هل تملكون وسيلة أو مقاييس للحكم على نجاح أي شخص أو مشروع سوى ما ترونه وتقرأونه من اخبار عنهم أو لهم في الصحافة؟ ازدهرت صناعة العلاقات العامة كإحدى متطلبات المركز المالي وأحد المتطلبات الأساسية في اقتصاد مفتوح، لكن العدوى شملت الجميع.
جاء الاصلاح وباتت لدينا قنوات وأدوات حرية التعبير: برلمان، ومنتديات واشكال الاحتجاج الجماهيري وصحافة باتت تلاحق كل شيء. لكن ثمة من يلاحق الصحافة.
هل تملكون قليلاً من الصبر؟ ارجعوا إلى أرشيف الصحف أو إلى المواقع الإلكترونية للصحف واختاروا خدمة «البحث» أو «البحث المتقدم» واكتبوا كلمة «مجلس» أو «النائب». ستجدون سيلاً من الأخبار عن مجلس النواب ومثلها تصريحات للنواب، لكنكم ستفاجأون بتكرار مفردات بعينها في هذه الأخبار والتصريحات.
الغالب الأعم من هذه التصريحات هو ذلك النوع الذي تكثر فيه هذه المفردات: «من المؤمل»، «من المنتظر»، «من المتوقع».
هذه الإحالة للمستقبل تعني اننا مازلنا نتعامل مع النيات، مع ذلك يمكن النظر إلى انجذاب النواب إلى الصحافة بشيء من الترفق. عدا التأكيد على حق النواب في التعبير عما لديهم من خلال الصحافة، علينا ان نتذكر ان حرية التعبير مستجدة لدينا وقد تمضي سنوات قبل ان يعي النواب الكرام وغيرهم الفارق بين «الوقوع في غرام الصحافة» وبين «الحاجة الحقيقية والوقت المناسب للجوء إلى الصحافة».
وإذا أردتم الدخول في لعبة التكهنات والتنبؤات إليكم بهذا السؤال: من هم النواب الذين اثبتوا جدارة ويملكون فرصاً قوية لإعادة انتخابهم؟ أياً كانت عناصر التقييم في هذا الصدد وأياً كانت دقة المقاييس أو واقعيتها فلن تجدوا مناصاً من الإشارة إلى أولئك الذين يملكون إطلالة مستمرة عبر الصحف وستسقطون من حساباتكم بعضاً من هؤلاء الذين يعملون بصمت ولا تحفظون أشكالهم.
هذا ليس ذنبهم، وليس الكثير من النواب وحدهم من وقع في غرام الصحافة، فهم يدركون جيداً ان الإطلالة المستمرة عبر الصحف تكاد ان تكون المقياس الوحيد السائد لدينا للحكم على النجاح والجدوى. اعتاد الناس ذلك طيلة العقدين الماضيين ومازالوا عندما يشكون من أي شيء وفي أي مكان يعيدون التذكير بما قرأوه في الصحف. مازالت الوزارات والشركات تداعب آمالهم عبر الصحف: نظام جديد للمراجعين، نظام جديد لتخفيف الازدحام، قسم جديد للشكاوى، جهاز جديد هو الاول من نوعه، نظام جديد لتحصيل الرسوم، نظام جديد للتوظيف وطبعاً استثمارات كبرى قادمة في الطريق والآلاف من فرص العمل.
أما اذا انقطعت الأخبار من الصحف، فلاشك ان فلاناً لا يعمل وان هذه الجمعية أو تلك أصبحت في طي النسيان. لقد أصبح من العسير ان ينشط الناس في أي ميدان بعيداً عن صلة مستمرة بالصحافة، أصبح من النادر ان يعمل الجميع بصمت
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 715 - الجمعة 20 أغسطس 2004م الموافق 04 رجب 1425هـ