الدعوة التي وجهتها طهران ودمشق لعقد قمة طارئة للدول المجاورة للعراق إلى مناقشة أزمة النجف جاءت متأخرة، إلا أن الوقت لم يفت لتداركها. فأزمة النجف ممتدة وتتجاوز الحدود الوطنية لبلاد الرافدين نظراً إلى موقع المدينة الديني والانعكاسات السياسية التي يمكن أن تنجم عن اختراق القوات الأميركية المحتلة الخطوط الحمر.
الدعوة متأخرة، لكنها ضرورية لمعالجة أزمة أريد لها أن تتفاقم لحسابات صغيرة لها صلة بالصراع على السلطة في بغداد والتنافس على المرجعيات التقليدية. إلا أن تلك الحسابات الصغيرة ليست بعيدة عن الانهيار العام الذي أصاب العراق بعد عاصفة الاجتياح الأميركي للبلاد وتقويض الدولة. فما يحصل الآن في النجف هو نتاج تلك الكارثة الكبيرة التي مزقت المجتمع ووزعته على مراكز قوى متناثرة بين شمال وجنوب ووسط. أزمة القرار في النجف لم تولد من فراغ بل هي من تداعيات أزمة عامة تجاوزت حدود الدولة وهددت استقرار المناطق المجاورة للعراق. وفي هذا المعنى يتحمل الاحتلال مسئولية ما حصل لأن اقتحام قوات أجنبية دولة صغيرة لا ينتج عنه سوى الخراب والدمار. وما حدث في العراق ليس جديداً على السياسة بل يعتبر نتيجة منطقية سبق أن تكررت في كل البلدان التي تعرضت للاجتياحات العسكرية.
أزمة النجف في أساسها سياسية وكانت موجودة سابقاً إلا أن الاحتلال أسهم في مفاقمتها وفتحها على مختلف الاحتمالات. والاحتلال بالمعنى القانوني يتحمل المسئولية المباشرة عن كل النتائج التي ستسفر عنها الأزمة.
الاحتلال هو المستفيد الأول من تداعياتها لأنه يحاول أن يورط الاطراف المحلية في مواجهات دموية تبرر استمرار وجوده وتعطيه شرعية سياسية للحرب المفتعلة التي فرضها بالقوة وضد الإرادة الدولية ومواثيق الأمم المتحدة.
الحكومة العراقية هي المتضرر الأول من تداعيات أزمة النجف لأن ما حصل ويحصل أعطى شرعية لكل تلك التجاوزات التي ارتكبها النظام السابق في معالجته للأزمات السياسية في البلاد. فالحكومة المعينة تعيد إنتاج نزعات الاستبداد والتسلط والقهر باسم «الديمقراطية» مستخدمة قوات الاحتلال لفرض سيطرتها على مراكز القوى في المجتمع.
مدينة النجف في النهاية باقية بينما الاحتلال والحكومة وأعوان الولايات المتحدة سيرحلون جميعهم عن المسرح الذي أريد له أن يكون بداية لكسر إرادة المجتمع عن طريق الإفراط في استخدام القوة واتباع وسائل العنف والإذلال لتمرير مشروع يهدف إلى تمزيق وحدة المشاعر والمصير.
النجف باقية مهما كانت نتائج الأزمة المتفجرة. والحكومة ستخسر معركتها السياسية حتى لو كسبت معركتها العسكرية بالتعاون مع الاحتلال. فالتاريخ هنا وفي كل مكان لا يرحم لأنه سيسجل المسئوليات على كل طرف وسيحاسب كل الاطراف على أفعالها. والتاريخ لا يدخل في تفصيلات الموقف. فالجزئيات تذهب مع الوقت وتبقى الكليات، وأهم عنوان في أزمة النجف أن حكومة محلية معينة ومؤقتة تعاونت مع قوات الاحتلال لكسر مدينة لها موقعها الخاص في الوجدان العراقي. هذا كل ما سيبقى من معركة النجف وهي في النهاية لها أبعادها التاريخية وتتجاوز كثيراً تلك اللحظات الزمنية المؤقتة التي نشهد تداعياتها هذه الأيام.
النتائج العسكرية لمعركة النجف واضحة ولا خلاف على أن قوات الاحتلال تملك القوة والمعدات والامكانات لقهر أية حركة تحتج على التسلط الأميركي. فالنتائج معروفة سلفاً والكل يجمع على أن القوة الأميركية تملك من القدرات وكثافة النيران والعدد والعدة تعطيها أفضلية لسحق المدينة واقتلاع «جيش المهدي» الذي هو مجرد مجموعات مسلحة ومتفرقة لا تملك السلاح النوعي الذي يسعفها على الصمود لفترة طويلة.
عسكرياً نتائج المعركة معروفة وواضحة. إلا أن النجف ليست حلبة لاختبار القوة الحربية وهي في بعدها التاريخي ومكانتها الرمزية تتجاوز هذه اللحظات الزمنية. المشكلة ستبدأ بعد اجتياح النجف وخرق الحرمات. وتبعات تلك الكارثة ستضع حكومة بغداد في زنزانة سياسية محكومة بالقبضة الأميركية وبقرار الاحتلال. فبعد النجف ستصبح حكومة بغداد أكثر حاجة إلى واشنطن وأكثر ارتباطاً بأجهزتها طلباً للحماية. وهذا بالضبط ما يريده البيت الأبيض من وراء توريط الحكومة في معركة تتجاوز تداعياتها حدود المدينة.
معركة النجف ليست عسكرية. فالقوات الأميركية تملك السلاح لحسمها. والحكومة المتعاونة قادرة على تسجيل مكسب في حرب طويلة، إلا أن الربح العسكري لا يعني بالضرورة بداية انتصار سياسي. فربما تربح الحكومة المتعاونة معركة النجف وتخسر حرب العراق.
ملف النجف معقد ومتشابك ومتداخل وهو أكبر من أن يعالج في إطار الحل الأمني (العسكري) ولذلك أصابت طهران ودمشق في توجيه دعوة عاجلة للدول المجاورة إلى مناقشة أزمة النجف. الدعوة متأخرة ولكن لابد من قمة لبحث الملف الذي لا تقتصر تداعياته على مدينة واحدة ودولة واحدة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 715 - الجمعة 20 أغسطس 2004م الموافق 04 رجب 1425هـ