خبران كنت أتابعهما وتتصاعد دقات قلبي معهما خلال الايام الماضية، أحدهما عن مدينة النجف الأشرف وما يجري فيها من الأهوال، والآخر يتعلق بشركة أميركية متخصصة في الانترنت اسمها «غوغل». وبين الخبرين قصص كثيرة ومآسٍ لا تحصى.
في النجف الأشرف وصل الأمر إلى درجة ان يستعد بعض سكانها - حسبما ذكرته وكالة الأنباء الفرنسية - لأن يقبل بشارون حاكما له مقابل وقف الدمار الذي حولها إلى مدينة اشباح بعد ان كانت كذلك طوال فترة حكم البعث البائد.
انتقل مباشرة بعد ذلك إلى خبر شركة «غوغل» - صاحبة أحد أشهر محركات البحث على الانترنت - لأقرأ أن قيمتها أصبحت 1,67 مليار دولار بعد ان أشهرت نفسها في بورصة نيويورك، وهذا المال يعادل تقريبا ما حققته شركة «طيران الإمارات» خلال العام الماضي بكل اسطولها المتطور الذي يغزو الاجواء في كل الانحاء.
في اليوم الذي اطلقت ملايين الطلقات من الرشاشات والقذائف بمختلف أنواعها على النجف الأشرف باعت شركة «غوغل» 20 مليون سهم.
أشاهد الفضائيات وكيف سقط شباب العراق على الأرض مضرجين بدمائهم، وأقرأ خبراً بأن الشخصين الأميركيين «سيرغي برين» و«لاري بيج» اللذين اسسا «غوغل» - وهما مازالا في الثلاثينات من عمرهما - جمعا الملايين من الدولارات في يوم او يومين، وأصبحا من الكبار الذين يملكون المليارات.
أقرأ الخبر الأميركي مرة أخرى لأعرف ان الشابين حققا فقط 7 في المئة من المال الذي يسعيان اليه وهو 23 مليار دولار، وأرجع لأتذكر أن مثل هذا الرقم لا تحصل عليه حاليا كل العراق بكل بشرها وثرواتها ومائها ونفطها، فيما تحصل عليه شركة أميركية على الانترنت!
أعود إلى النجف لأشاهد «مقبرة السلام» التي اصبحت معركة للحرب الطاحنة بين شباب لا يملكون حتى دولارا في جيوبهم، ولا يعرفون عن «غوغل» ولا عن المليارات التي يحققها شباب بعمرهم نفسه في أميركا.
شباب نيويورك لهم اخبارهم، وشباب النجف لهم أخبارهم... أخبار تتحدث عن الحياة الواسعة وأخرى تتحدث عن الموت والدمار الواسع... أخبار شباب نيويورك تتحدث عن ارقام خيالية لا يفهمها شباب النجف الذين ماتوا آلاف وملايين المرات منذ ان حكم حزب البعث الجائر بلادهم، واستمرت اوضاعهم حتى بعد زوال ذلك الحكم في 9 ابريل / نيسان من العام الماضي.
اتنقل ما بين الخبرين وتراودني الأفكار الواحدة تلو الأخرى، بعضها غريب جداً يقلب الصورة ليفهمها... فأحوالنا مقلوبة، لأننا أصحاب ثروة حضارية تتمثل في ديننا الاسلامي ولكننا في مؤخرة الأمم... ولدينا كل الثروات الطبيعية ولكننا لا نحصل منها على شيء، ولدينا كل الشعارات الثورية والتقدمية ولكن واقعنا قاتم لا تستوعبه إلا ظلمة القبر الذي يُرسل اليه شبابنا زرافات كل يوم، بينما يتمتع الشباب في عالم آخر بدنيا غير الدنيا التي نراها أمامنا... دنياهم غير دنيانا ولا أدري إن كان ذلك بسببهم أم بسببنا
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 715 - الجمعة 20 أغسطس 2004م الموافق 04 رجب 1425هـ