لا يمكن لأي متابع لحوادث الساعة على الصعيد الاسلامي ان يتجاهل ما يحدث من تقييم مزدوج للكثير من الشخصيات ولاسيما القيادية منها. بقدرة قادر أصبح الشارع يمتلك جميع مقومات التزكية لأي كان. ولا أدري ان كان واثقا من أنه يمتلك الحقيقة المطلقة التي تجعله يدافع باستماتة عن رأيه في هذا أو ذاك.
الغريب في الأمر ان مثل هذه التقييمات لا تظهر الا في الأوقات الحالكة والأزمات المبهمة التي يشتبه فيها الامر على النبيه المتريث فضلا عن الحماسي المتسرع، ويصعب فيها تغليب الجبهة التي تمتلك الحق.
من يقيّم من؟
تلتبس عليك الكثير من المواقف في خضم الحوادث المتتابعة على الساحة الاسلامية، تتصارع فيها قيادات دينية كلها تمتلك المقومات الشرعية وسياسية تحمل المؤهلات الفكرية، فلا تمتلك الا ان تقول: «اللهم أرني الحق حقا فأتبعه...». غير ان الناس اليوم أصبحت من القدرة بمكان بحيث لا تستمد العون من الله على معرفة الحق، وإنما تكتفي بما تمليه عليها عواطفها فحسب.
المشكلة تكمن في ان الشارع العام يعيش في صراع مستمر يختلف فيه على صدقية هذه القيادة وخيانة تلك، في الوقت الذي تسعى فيه القيادات نفسها الى البحث عن نقاط الالتقاء وسد فجوات الاختلاف درءاً للفتنة. وعلى ذلك قس ما شئت. ويبدو ان الشارع أصبح أكثر حرصا على المصلحة العامة من قياداته التي وضع ولايزال يضع ثقته فيها. وتحتار أمام هذه التناقضات، ولا تمتلك الا ان تسأل: من ينظّر لمن؟ ومن يقيّم من؟ ومن يزكّي من؟ «القيادة» أم «قواعد القيادات»؟ هذا مالم نعد ندركه!
على الصعيد البحريني، كلنا رأينا بأم أعيننا مخلفات حوادث التسعينات. فهي بقدر ما أفرزت من ايجابيات عدة وبقدر ما أعطت من صور جلية لحقائق كانت خفية على الكثير من الناس إلا انها رفعت قوما وأسقطت آخرين. طبعا لم يكن المعيار دائما يشير الى صحة هذا الرفع أو الخفض، فحتى بعد انتهاء تلك الحوادث لم تسلم حتى قيادات الشارع من سهام التسقيط والتخوين في الوقت الذي كانت ترفع على الأكف في إيحاء تقديسي صرف.
اما على الصعيد الخارجي فحدث ولا حرج عن نماذج من هذا النوع، تارة في المسائل المرجعية وتارة في المسائل العقائدية واخرى في المواقف السياسية التي ربما لا ينطبق عليها حكم شرعي ثابت... وهكذا. فترى كل فئة تتقاذف اخرى تحت مسمى قيادة ما، وعادة ما تكون هذه «القيادة» بريئة من تصرفات المحسوبين على خطها من مواقف التشهير والتخوين. والادهى انها تصل الى حد «التكفير» بين فئتين تعتنقان الدين والمذهب نفسيهما.
أين يكمن الخلل؟
المشكلة لا تكمن في طبيعة الاختلاف، وانما تكمن في امرين، الاول: (احتكار الحقيقة)، والثاني: (تغليب المصلحة الخاصة على الصالح العام)
الاختلاف حقيقة قرآنية وحكمة إلهية لا مناص عنها. لطالما قرأنا قوله تعالى: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض» (البقرة: 251) وكذلك قوله جل وعلا «ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع» (الحج: 40)، وهذا يجعلنا نتيقن ان التعددية ليست مفتاح الفتن وليست بوابة لشن الهجمات «التضليلية»، بل هي السبيل لانضاج حال الوعي الفكري لدى الأمة وانتشالها من الفساد كما نفهم من المدلول القرآني. المأساة ان كل الاطراف تدرك هذا جيدا، بيد انها تتجمد عند اساليب «الرفع» و«الخفض» كلما داهمتها فتنة ما أو خلاف ما.
ما يثير الاستغراب دائما وكما أسلفنا هو عدم التوافق بين الاساليب والأحكام التي يطلقها «المنتمون إلى القيادة» و«اساليب «القيادة نفسها»! اذ تجد ان «القيادة» في أكثر أطراف النزاع، تتسم بحسٍ متوازن وحكمة كبيرة في معالجة نقاط «الاختلاف» مع الطرف الآخر من دون اللجوء الى المهاترات والمشادات التي تنتقص من صدقيتها وأحقيتها في أي موقف. بينما ترى «البطانة» أو «المنتمين» يتعاملون بأسلوب مختلف يسيء الى القيادة قبل ان يسيء اليهم أو الى خصومهم وهنا تقع المشكلة... فما معنى أنك تقدس فلانا عاطفيا بيد أنك لا تتبع منهجه في معالجة الأمور؟ وما معنى أنك تقاطع عمرا وتسقط زيداً في الوقت الذي تتحفظ فيه «قيادتك» على استخدام أساليب هابطة كتلك؟! وأخيرا لماذا لا تكون كالقادة؟
لو أردنا «المسميات» فهي كثيرة، ولكن لا نريد سوى الوقوف على مكامن الخطر الذي يحدق بنا من دون ان نشعر.
«التقديس المطلق» و«التسقيط المطلق» ظاهرتان خطيرتان تشرّبهما البعض من هذا المجتمع الإيماني الواعي من دون ان يشعر ربما بفداحة ما تخلفانه في جسد الأمة من تمزيق وتوهين. فلا الذي يقدس بعمى ينفع من يقدّس ولا الذي يفسّق ويسقّط بعصبية يصنع حلاً.
المأساة أننا نتحدث عن التوازن وعن الوسطية بينما لا نتقن فن التعامل بهما، لذلك تجدنا نسقط في شباك العصبية كلما حاولنا التصنع بأننا عقلانيون. حقيقة، نحتاج أن نتوقف قليلاً أمام هذا الواقع، ونحتاج ان نتعرف على فن التعامل مع الرأي الآخر في الأدب الإسلامي وفي العرف المتحضر، لكي لا نقع في دوامة الحروب الاهلية والعقائدية والسياسية الطاحنة
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 714 - الخميس 19 أغسطس 2004م الموافق 03 رجب 1425هـ