«... سيجري البحث والتخطيط لإجراءات شاملة واحتمالية يتكلف الإنفاق عليها مبلغ 570 مليون دينار بحريني ع
وعلى إثر هذا التصريح أثيرت البلبلة والإرباك لدى الرأي العام، وانتفض بعض النواب في المجلس النيابي كزوبعة في الفنجان، وكلها أيام معدودة وجاء النفي القاطع كحد السيف لهذه التصريحات على لسان مسئولي الدولة، من أن الحكومة لا تتبنى سياسة زيادة الرسوم والضرائب كأسلوب للحل ولا تبحث عن الطرق السهلة لعلاج المشكلات، إذ وباعتراف الحكومة فإن المواطن هو المتضرر الأول والأخير من أية زيادة في الضرائب. (أخبار الخليج 15/8/2004). ولأن المواطن لا يضمن ثبات الموقف على حاله لا على المدى المتوسط ولا البعيد، وعلى رغم تأكيد النفي المنشور على صدر الصحافة المحلية فإن ذلك لا يمنع من التوقف والإشارة إلى بعض الأمور مع تكرار ظاهرة التصريحات ونقيضها:
الأول: كيف يجوز لمسئول بمنصب رفيع (وكيل وزارة) وبما يتوافر له من صلاحيات وضع النقاط على الحروف من الإدلاء بدلوه دونما مراجعة متعمقة ومتأنية للموقف الرسمي ولسياسات وتوجهات الحكومة الاستراتيجية بشأن ما يمس أمن المواطن الاجتماعي واستقراره النفسي، وخصوصاً أن أي إجراء بزيادة أي فلس بحريني كرسوم أو ضرائب ستقع على كاهل المواطن، بالقطع، ستثير وبشدة حفيظته وبما لا يحمد عقباه، وهذا ما حدث فعلاً ولا لوم على المواطن، «... يتردد في الأونة الأخيرة على لسان بعض المسئولين رفع الضرائب على السيارات ورفع رسوم التسجيل ومن قبلها رفع أسعار الوقود وفرض رسم لاستخدام الطرق وما إلى ذلك من مصائب تلقى على كاهل المواطن الفقير المعدم الذي لا يتجاوز راتبه في معظم الأحيان سقف (400) دينار... ألا يكفي هذا المواطن ما يدفعه الآن؟ لماذا تريدون أن تثقلوه بديون رسوم جديدة يتحملها هو فقط»... مقال من بريد القراء «كفاكم لا تخترعوا لنا المزيد من الرسوم للمواطن طه الشاعر، أخبار الخليج 17/8/2004).
ومع الأخذ في الاعتبار تصريح النائب ورئيس لجنة المرافق العامة والبيئة في مجلس النواب عبدالعزيز الموسى الذي شكك بدوره في صدق نوايا وزارة الأشغال لقيامها بالتصريحات ثم نفيها في وقت لاحق، فإننا نجد الأمر غير مبرر أبداً بتأكيد أنه مجرد «بالون اختبار» لماذا؟ الأمر بديهي، فالمواطن الرازح تحت وطأة أنابيب الاختبار المخبرية والتعجيزية، تكفيه «البلاوي» المتعلقة بحال الركود للدخول والارتفاع المطرد للأسعار ومستويات المعيشة المتدنية، علاوة على نسب البطالة وشح فرص الأعمال، فهذه البالونات على الأرجح لا تتلاءم البتة مع مزاج المواطن الذي عانى ما عانى خلال الأشهر الماضية من انقطاعات التيار الكهربائي والوعود تلو الوعود، وهو غير مستعد لإدخاله في درب المتاهات والتصريحات ومتناقضاتها، وبالتالي، لماذا أطلقت وزارة الأشغال والإسكان بالونها في فضاء البحرين؟ وهل كانت منصة الانطلاق بريئة من خطأ التصويب؟ وكيف ومن سيحاسب عن أخطاء التصويب؟
الثاني: يؤكد النائب الموسى، أن زيادة رسوم استيراد السيارات تخالف بصراحة بنود الاتفاق الذي وقعته الدولة بشأن توحيد الضريبة الجمركية بين دول مجلس التعاون الخليجي. وإن كان رأيه صحيحاً، فذلك يستوجب العودة إلى الوراء للبحث في أصل القرار الذي اتخذ بزيادة النسبة أو خفضها، استناداً إلى مبدأ الحد من استيراد السيارات لحل المشكلة المرورية، إذ أثبت الواقع عدم جدوى هذه السياسة، فلا عدد السيارات قل ولا يحزنون، كما نستفسر مع المواطن، عن دور الوزارة المعنية بما تمتلكه من أجهزة بحث وتخطيط يتربع على قممها باحثون ومختصون ومستشارون محليون وأجانب، نسألهم: ألم يدرسوا ويتمعنوا وهم يخططون في بنود هذا الاتفاق قبل إطلاق «بالون الاختبار»، وخصوصاً إذا كانت الغاية هي الحد من استعمال السيارات الخاصة، أو كأحد مصادر الدخل وتغطية الأكلاف للمشروعات التنموية القادمة!
الثالث: وبشأن زيادة أسعار الوقود، نحمد الله أننا ما برحنا دولة مصدرة للنفط، ومن المفترض أن ينعكس ذلك على أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها للمواطن، وأن يتمتع كما غيره من مواطني بقية دول النفط من الزيادة في عائدات الوفرة النفطية في تحسين وضعه المعيشي بدل إرهاقه بزيادة أسعار سلعة متوافرة وتصدّر للخارج، إذ ليس من المعقول احتساب زيادة على المستهلكين تماماً كما يحدث في باقي الدول التي لا تمتلك هذه السلعة وتستوردها. إلى ذلك نسأل: هل سيرهن سعر استهلاكها في السوق المحلية في حال زيادته لما يطرأ من تغير على سعرها في السوق العالمي انخفاضاً أو زيادةً؟ سيكون الأمر أكثر انصافاً واستيعاباً من المواطن لو يتفضل عليه المسئولون بكشف وجرد حساب الصادر والوارد والعائد على هذه السلعة وكيف ستسخر عائدات الزيادة في تحديث البنى التحتية للبلاد وبوقت قياسي وتغطية وتطوير جميع الخدمات للمواطن.
الرابع: عن التخطيط لإنفاق (570 مليون د. ب) على مدى (17 عاماً) أي ما يعادل (33,52 مليون د. ب) لكل سنة، إذ عند مقارنة بسيطة بين الكلفة الجزئية لبعض المشروعات قيد الإنشاء مثل الجسور العلوية للسيف (9,700 ملايين د. ب)، والطرق المؤدية للفورملا 1 (4,500 ملايين د. ب)، والجزء الرئيسي فقط من جسر الشيخ خليفة (13,000 مليون د. ب)، فالشك والريبة تراودنا كما غيرنا من المهندسين المختصين، في كفاية المبلغ المفترض لإنشاء عدد من الجسور والطرق التحتية، وخط للسكك الحديد الخفيفة وما شابه بحسب رأي الوكيل، ثم ماذا عن الصيانة والوقاية الدورية؟ هل سيشملها المبلغ أم لا؟ ولا تعليق هنا سوى أنه، لو توافر للبلاد عشرون عاماً من عمرها يرحل خلالها وإلى الأبد الفساد والكذب، لكننا أقرب إلى مجتمع الفضيلة والأخلاق، ومن المرجح انتفاء الحاجة إلى كتابة مثل هذه المقالات!
شاءت الظروف أن أزور هولندا منذ بضعة أشهر مضت، وأدهشتني وشدتني من أطرافي هندسة مدنها التي تربط بينها شبكة قطارات وطرق واسعة بامتداد البصر، فهذه البلاد على اتساع مساحتها الجغرافية اخترقتها طولاً وعرضاً قنوات مائية، حسبت في البدء أنها قنوات ومجار نهرية، وعندما استوضحت أمرها قيل لي إن أحد مهندسيها المبدعين البارعين العاشقين لهولندا، صمم وهندس القنوات لتفادي فيضان مياه البحر بسبب ارتفاع مستوى سطحه عن الأرض، ومن الأمثولات التي تقدمها هولندا أنه ليس بها جبال ولا نفط فكل ما يملكونه أبقار ومساحات شاسعة وطقس بارد وتاريخ عريق من الفن والإبداع، وموارد بشرية مؤهلة، وأضيف، أنه لديهم مسئولون يتوافرون على ضمير ومخلصون وصادقون قرروا في لحظة ما نسيان مصالحهم ودفنوها في مقابر التاريخ وعملوا الصالحات لوطنهم كي يبرز بتلك الصورة الجميلة البديعة وليكون مقصداً للزوار والسائحين وتوفر لدخلهم القومي ثروة مضافة إلى ما لديهم، وهم قليلو الكلام والتصريح، كثيرو العمل، فهل نخلد للنوم ونحلم ببشر مثل هؤلاء؟
الخامس: أما ما ورد عن فرض رسوم على استخدام الطرق وإقامة شبكة سكك حديد، فإنه من المجدي والضروري أن تباشر الدولة بإيجاد بدائل كوسيلة النقل الجماعي، وتقوم بدراسة المشروع بعمق ودقة متناهية، بحيث تكون كلفته معقولة وتتناسب وظروف المواطن، وأن العائد من ورائه ليس بقصد الربح على المدى القصير، على أن تدعم الدولة هذا القطاع حتى لو أداره القطاع الخاص، وبالتالي وقبل المباشرة بفرض الرسوم لابد من توفير البدائل والاستعداد لإنشاء شبكة المواصلات التي تخدم المواطن بالأساس كما يحدث في جميع دول العالم، ودراسة تجربة النقل العام في السبعينات إذ على رغم إخفاقاتها فإنها كانت أكثر كفاءة واتساعاً وتلبية لاحتياجات المواطن في وقتها. كما أن مساحة الرقعة الجغرافية للبحرين لا تتعدى (712 كيلومتر مربع)، وعدد سكانها لم يتجاوز بعد المليون، وقيادة العربة فيها طولاً وعرضاً لا تستغرق أكثر من ساعة زمن، فكيف سيتم فرض رسوم على استخدام الطرقات؟ هل سيكون على الجسور الثلاثة التي تربط جزيرة المحرق بالمنامة أم على جسر سترة، أم ماذا؟ البحرين ليست تايلند ولا الصين، أو أميركا.. إلخ، البلد جزيرة صغيرة وحل مشكلتها واختناقاتها المرورية تستوجب فقط موازنة (مرحرحه، وسخية من وفرة العائد النفطي، باسم الله ما شاء الله) وسرعة إنجاز لا تطالها أيادي الغش والفساد، صدّقوني وقتها ستحل المشكلة.
باشرت بكتابة هذه السطور فور عودتي إلى منزلي قبل أن يخفت ويغادرني شعور الغضب والغثيان الذي يتملكني يومياً وأنا أدعس بنزين عربتي في الشارع الموصل ما بين قريتي السهلة وأبوقوة.
أجزم أن كل القاطنين معنا وحولنا في هذه المنطقة مصابون بمشاعر الغثيان ذاتها. تمنيت في سري ألا يلعنوا كما أفعل، الديمقراطية التي لم تحسن من ظروفنا المعيشية ولا الخدمات التعليمية والصحية والإسكانية، وألا يكثروا اللعنة على الأحاديث الكثيرة عن تحديث البنى التحتية التي لا تشمل شوارع المناطق الفقيرة وذات الدخول المتوسطة، ليس لهم من ذنب بهذا الإهمال الأزلي سوى أن نخب المجتمع لا ترتاد مناطقهم وطرقاتهم المحفورة بأخاديد وبقرت بطونها ولم تسو ثانية ولا من سامع ولا من مجيب. ويزداد الغثيان عندما نقرأ عن لجنة المرافق العامة والبيئة في مجلس النواب التي ستستجلي الصورة من الوزارات المسئولة عن البطء في تنفيذ المشروعات الخاصة بالطرق وكأنها تستجدي عوضاً عن المحاسبة، إذ كما هو واضح اهتمامهم ينحصر بالخطط الطويلة الأمد المتعلقة بإيجاد حلول سريعة للاختناقات والازدحامات المرورية في شوارع «الهاي وي»، لكنها ليست في وارد تحسين شوارع وطرقات المناطق الفقيرة وذات الدخول المتوسطة المنكوبة دوماً بالوعود، من أول قرى شارع البديع إلى نهايته وبما تشمله من السهلة وأبوقوة، وجزيرة سترة، والمعامير والنويدرات، وأحياء المحرق والمنامة القديمة، وغيرها، يا الله... أين المسئولون؟ أين أعضاء المجالس البلدية والبرلمانيون؟ هل قلنا لكم كل ما لدينا؟ لا، بالطبع ليس بعد، هل يستطيع الجميع منكم ومنا النوم بضمير صاف؟ نرجو للجميع ذلك
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 714 - الخميس 19 أغسطس 2004م الموافق 03 رجب 1425هـ