تبدو الأمور المحيطة بأزمة النجف تتجه نحو الحل العسكري. فالغموض السياسي الذي يسيطر على أجواء المعركة يدفع إلى تغليب عناصر القوة على عوامل التفاوض.
هذا الاستنتاج يمكن دعمه بتلك التصريحات الفضفاضة التي صدرت في الأيام الأخيرة عن الحكومة العراقية. فالحكومة تقول إنها اعطت فرصة أخيرة للحل السياسي ولكنها اعتبرت نفسها غير معنية بالتفاوض. فالتفاوض مع حركة السيدمقتدى الصدر غير وارد كما قال اياد علاوي في مؤتمره الصحافي. هناك شروط وضعها «المؤتمر الوطني العراقي» وكلف عميد عائلة الصدر السيدحسين الصدر بنقلها إلى النجف. السيدحسين الصدر قال إنه ذهب تحت القصف لنقل مبادرة المؤتمر الوطني (ولم يلفظ مفردة شروط) إلا أنه عاد إلى بغداد وفشل في لقاء ابن عمه.
لماذا عاد إلى بغداد بهذه السرعة؟ سؤال لم يجد الجواب الواضح من السيدحسين الصدر. هل عاد لأن ابن عمه الشاب رفض اللقاء أو رفض المبادرة أو رفض الشروط؟ هل عاد لأن هناك صعوبات عملية (ميدانية) حالت دون الوصول إلى مركزه؟ هل هناك من عطّل إمكان الاتصال أو وضع العراقيل لمنع الوفد من الوصول أو نقل المبادرة أو الشروط؟
هذا غير واضح حتى الآن. فكل طرف يلقي المسئولية على الآخر. الصدر الشاب يقول إنه وافق على بنود المبادرة. عميد عائلة الصدر يقول إنه تلقى من مكتب ابن عمه موافقة على المبادرة لكن الاتصال لم يتم للتأكد من صحة خبر الموافقة.
لماذا لا تتصل به هاتفياً؟ سؤال طرحه احد الصحافيين على السيدحسين الصدر. فاجاب: الهواتف مقطوعة في النجف. قال له الصحافي: لماذا لا تستخدم الهاتف النقال؟ لا جواب.
إذاً هناك نقطة غامضة في المسألة. والكل يريد المناورة لكسب الوقت. فالكل كما يبدو يريد اكتشاف ردود الفعل قبل اتخاذ القرار الحاسم.
الحكومة العراقية كما يظهر من تصرفات رئيسها وضعت نفسها فوق الحدث. فهي لا تتنازل ولا تقبل التفاوض ولكنها مستعدة للاستماع إلى مدى استجابة الصدر لمبادرة المؤتمر الوطني. وهي أيضاً تعتبر نفسها غير معنية بالمبادرة أو التفاوض، انها معنية بالشروط. فهذه البنود ليست للتفاوض بل مجرد ورقة للاستسلام.
غموض الجانب السياسي يكشف بوضوح عن خطة عسكرية مسبقة ومبيتة أجلت الحكومة تنفيذها لفترة زمنية محددة حتى تمر جلسات «المؤتمر الوطني» من دون تشويش أو انفعالات سياسية، تعطل الهدف الرئيسي منها وهو تشكيل «المجلس الوطني»، وهذا ما تم.
الآن تبدو الحكومة مرتاحة أكثر لاعتماد الخيار العسكري بعد أن نجحت في تمرير جلسات «المؤتمر الوطني» وبعد أن اعطت أعضاء المؤتمر فرصة لتجربة حظهم مع حركة مقتدى الصدر. فالآن تستطيع الحكومة ان تتحرك تحت مظلة القوات الأميركية بذريعة أن الصدر قطع عليها كل المحاولات لايجاد مخرج سلمي للمشكلة.
وزير الدفاع فضح بعض عناصر الخطة حين قال في مؤتمر صحافي إلى جانب رئيس الحكومة «ان القوات تعمد منذ ثلاثة أيام إلى تنظيف شوارع النجف من المسلحين». قال وزير الدفاع هذا الكلام بعد لحظات من قول رئيس حكومته إن الحكومة اعطت مهلة زمنية للاستسلام وليس للتفاوض.
وحين سئل ماذا تريد الحكومة من الصدر الآن؟ اجاب انه يريد منه ان يظهر على محطة تلفزيونية، ويعلن قبوله خطياً بالشروط. فهذه البنود ليست قابلة للتفاوض ولا حوار مع الحكومة. وحين قيل ان الحكومة طردت المراسلين والصحافيين ولا توجد محطة ولا كهرباء ولا ماء ولا هواتف لإعلان الموافقة أو عدم الموافقة. كان الجواب هو الصمت.
كل هذه المؤشرات تدل على أن الوجهة تسير نحو الخيار العسكري بعد أن اقفلت الشوارع والمنافذ والأبواب. فالحكومة تعتبر كما يبدو أن الملف الأمني مسألة عسكرية وليست سياسية. وان كسب معركة النجف هي بداية لكسب معركة العراق لأن تكسير النجف يعني إرسال اشارة واضحة إلى ان المحرمات سقطت وان المقدسات لا قيمة لها امام هيبة «القانون». فبعد النجف يمكن أن ترتكب الحكومة كل المخالفات لأنها قد تجاوزت العقدة الكبيرة.
الأمور المحيطة بأزمة النجف تبدو أنها تسير نحو الحل العسكري، بعد أن استكملت المناورات السياسية وكسبت الحكومة معركة الوقت.
معركة النجف يمكن القول إنها بدأت وهي تتجه نحو الحسم، لكن السؤال الكبير ليس هنا. السؤال هو: ماذا بعد معركة النجف؟ وماذا ستقول الحكومة للشعب العراقي بعد هتك المقدسات والايغال بالدم؟
العدد 714 - الخميس 19 أغسطس 2004م الموافق 03 رجب 1425هـ