هل كانت ألمانيا محايدة في حرب الخليج العام 90/1991 ضد العراق؟ ما هو الدور الذي قامت به؟ هل حكومة المستشار السابق هيلموت كول حصلت على رشا لقاء بيع دبابات للسعودية على رغم أن الموقف الألماني الرسمي يمنع تصدير أسلحة لدول منطقة الشرق الأوسط، باستثناء «إسرائيل»؟
هذا ما ستنشغل به المحافل القضائية والسياسة والإعلامية عندما تبدأ محاكمة لودفيغ بفالز وفي حال قيام السلطات الكندية بتسليم ألمانيا رجل الأعمال الألماني كارل هاينز شرايبر الذي لجأ لأراضيها. وهذا هو أبرز شخصية في هذه القضية المتفرعة والتي ستحرج شخصيات سياسية كبيرة تنتمي للاتحاد المسيحي المعارض لأن شرايبر يحتفظ بأسماء السياسيين الذين قدم لهم رشا مالية لقاء الحصول على قرارات تساعد لوبي السلاح الألماني. عادت الأضواء لهذه القضية التي تسببت بالكشف عن أسلوب المستشار السابق هيلموت كول واستئثاره بالسلطة، بعد اعتقال لودفيغ بفالز في باريس في الشهر الماضي.
تكشف قضية لودفيغ بفالز رئيس البوليس السري الألماني السابق والوكيل السابق بوزارة الدفاع الألمانية الذي سيجري تسليمه لألمانيا من قبل سلطات الأمن الفرنسية في القريب، أن الظروف المحيطة بصفقة دبابات فوكس للسعودية التي لعب دورا بارزا فيها، كانت أكثر من مجرد صفقة تجارية بقدر ما كانت النهاية لعملية سياسية بدأت فصولها في السبعينات. بفالز واحد من عدة أشخاص يواجهون اتهام تلقي رشا نتيجة صفقة دبابات للسعودية. ذلك أنه بعد فشل خطة بيع السعودية بضعة مئات من دبابات(ليوبارد) وعربات مدرعة أخرى، توصل المستشار الألماني هيلموت شميت في العام 1981 مع المسئولين السعوديين إلى حل وسط. بعد مباحثات عقدها في جدة مع الملك فهد، أعلن أن أمن المملكة العربية السعودية يشكل أهمية بالغة لأمن جمهورية ألمانيا الاتحادية.
وتم ترك معنى تصريحات المستشار الألماني غير محددة. على رغم أن شميت استبعد قيام بلاده في المستقبل ببيع أسلحة للسعودية إلا أنه وعد ملك السعودية بأن تبذل ألمانيا قصارى جهدها كي تحصل المملكة على عتاد عسكري يساعدها في الدفاع عن أراضيها. كما أيدت إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر رغبة السعوديين وكانت متفقة مع الرياض على أن تحصل الأخيرة على دبابات ليوبارد التي تمتاز بسرعتها وذلك كي تحصل المملكة على سلاح يردع جيرانها في إيران والعراق. في هذا الوقت دخل البلدان في حرب طاحنة فيما بينهما.
ظلت القضية مجمدة وفي هذا الوقت بدأت الحكومة الألمانية تشعر بالقلق من مغبة تعرض أمن السعودية إلى خطر على رغم أن هذه الحرب لم تشكل تهديدا حقيقا على السعودية. لكن الائتلاف الاشتراكي الليبرالي الحاكم كان يعارض تصدير أسلحة إلى بلدان الشرق الأوسط وللتأكيد على ذلك تم إدراج هذا الموقف ضمن الشروط السياسية الخاصة بصادرات السلاح الألمانية.
في العام 1982 حصل تغيير حكومي في ألمانيا وأكد المستشار هيلموت كول أن بلاده لن تبيع دبابات للسعودية ولا لدولة أخرى في منطقة الشرق الأوسط وأعلن بذلك تمسكه بموقف شميت المعلن في العام 1981. لم تتوقف واشنطن عن مطالبة الألمان بيع السعوديين دبابات (ليوبارد) كما طلبت مصر والأردن الحصول على عدد من هذا الطراز. ومن مدينة ميونيخ بدأ رئيس الوزراء البافاري فرانز جوزف شتراوس يدعو لبيع السعودية هذه الدبابات فيما أعربت «إسرائيل» عن معارضتها بشدة. في العام 83/1984 جرت مباحثات جديدة بين بون والرياض إذ زار وفد ألماني رفيع المستوى (ثلاثة مسئولين بدرجة وكيل وزارة) السعودية حاملين معهم قائمة من الأسلحة التي قالت بون أنها مستعدة لتصديرها لكن القائمة خلت من دبابات(ليوبارد). لم يبد السعوديون اهتماما بالعرض الألماني وراحوا يثيرون التعهد الألماني بدعم أمن السعودية وشكوا من أن ألمانيا لا تأخذ ذلك على محمل الجد. كانت نتيجة المحادثات التوصل لإيفاد لجنة من الخبراء السعوديين إلى ألمانيا لتحديد نوع الأسلحة الألمانية التي ترغب بها السعودية وأصر السعوديون بالحصول على دبابات (ليوبارد). أمضى الخبراء السعوديون مدة أسبوعين في ألمانيا ثم عادوا إلى المملكة بعد أن عرضوا قائمة باحتياجاتهم على الجانب الألماني. تبع ذلك مدة عامين سادها هدوء تام على مسار العلاقات السعودية الألمانية.
في العام 1987 قامت الرياض بمحاولة جديدة حين طلبت من ألمانيا بيعها اثني عشر غواصة وبناء قاعدة للبحرية السعودية وكانت قيمة المشروع تقدر بنحو 12 مليار دولار. وقام غيرهارد شتولتنبيرغ وزير الدفاع الألماني بالطلب من الحكومة عدم تفويت هذه الصفقة حفاظا على صلابة صناع السفن الألمانية وكي تحسم الصفقة لصالح ألمانيا أمام المنافسين الدوليين. قدمت بون للسعوديين قائمة جديدة بعروضها من الأسلحة التي ترغب ببيعها لهم وكانت هذه المرة تحتوي على أنظمة من السلاح لم يسبق أن شاهدتها عيون السعوديين: عوضا عن غواصات تضمنت القائمة دبابات مضادة للطائرات من طراز(رولاند) وقوارب لتقفي أثر الألغام البحرية وصواريخ تطلق من مدافع القوارب وقوارب حربية سريعة. كما وافقت الحكومة الألمانية على مشروع بناء ميناء للبحرية السعودية وتجهيزها أيضا بنظام للدفاع الجوي. لكن دبابات(ليوبارد) لم تدرج في هذه القائمة.
هذه المرة أبدى السعوديون اهتماما كبيرا بالعرض الألماني وخصوصاً بدبابات(رولاند). لكن الخطأ الذي وقع فيه السعوديون أنهم تأخروا كثيرا في البت بموضوع الشراء ولم يجيبوا على العرض الألماني الذي وصلهم خطيا إلى أن اجتاحت القوات العراقية أراضي الكويت في الثاني من أغسطس/ آب العام 1990 حيث قام المستشار كول على أثر ذلك بتجميد العرض الألماني متعذرا بحال الحرب وقال إن ألمانيا لا تبيع أسلحة لمناطق فيها نزاعات مسلحة. وحصل الموقف الألماني على تفهم من قبل غالبية الأطراف. وقال كول إن بلاده مستعدة لدعم أمن شركائها في حال السلم فقط وأنها تقدم أسلحة لهم لاستخدامها في ردع الأعداء وليس لغرض استخدامها في الحروب.
لكن الولايات المتحدة ظلت تصر على بون وهذه المرة كان جورج بوش الأب قد وصل السلطة وراح يعد لحملة عسكرية ضد العراق. طلب بوش من ألمانيا تزويد السعودية بأسلحة كي تشارك الأخيرة في توفير الحماية البحرية بمنطقة الخليج وقالت واشنطن إن هذه الخطوة تساعد أيضا في مواصلة نقليات النفط من المنطقة وهذا من مصلحة ألمانيا أيضا. كانت دبابات(فوكس) المجهزة بمختبرات لتقفي أثر أسلحة الدمار الشامل والتي حصل عليها السعوديون لقاء سعر ضعف قيمتها الحقيقية، السعر الرخيص الذي قدمته ألمانيا في حرب الخليج العام 90/1991 وبعد نهاية الحرب دفعت بون 17 مليار مارك(نحو 5,8 مليار يورو) مساهمة مالية لخزينة الحرب لأنها لم تشارك بصورة مباشرة بها ولم ترسل قوات بما في ذلك مساعدات لـ «إسرائيل» وثمنا للعتاد العسكري الذي استخدم في حرب تحرير الكويت. ولا يعتبر المؤرخون أن ألمانيا كانت طرفا محايدا في حرب الخليج العام 90/1991. وقامت ألمانيا خلال الحرب بإرسال 36 دبابة من طراز(فوكس) إلى السعودية وكانت دبابات مستعملة تم إشراكها في المعارك التي قام بها الجنود الأميركيون ضد الجنود العراقيين
العدد 713 - الأربعاء 18 أغسطس 2004م الموافق 02 رجب 1425هـ