ثمة اعتبارات رئيسة، لم تؤخذ في الحسبان إطلاقاً حال الحديث عن التسهيلات الاقتصادية وتطبيق اتفاقات الجات والسوق المفتوحة وجذب الاستثمارات الخليجية والعربية والأجنبية... تلك الاعتبارات، إن جازت تسميتها طبعاً، لا تحيد عن إطار «المنغصات» يتصدر قائمتها اصطفاف ذوي العقليات القديمة في موقع القرار الاقتصادي وتقديم التسهيلات والخدمات... نراهم إذاً في مواقع ومناصب، لا تناسب التغيير الأيديولوجي السليم في مساقات إزالة العقبات من أمام الاقتصاد كركن رئيسي في المشروع الإصلاحي الكبير الذي يقوده عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه.
وليس عاهل البلاد من ينتظر تباشير المؤشرات الاقتصادية العليا، فكل من سمو رئيس الوزراء، وهو رجل اقتصادي يدرك بنظرته العملية والعلمية أهمية الاستفادة من التجارب العلمية، وكذلك اهتمام سمو ولي العهد بحركة النمو الاقتصادي، كل تلك التوجهات القيادية تنبئ عن فهم صحيح لواقع الأوضاع في مستقبل الزمن، إذ لن يكون لأية دولة أو تكتل ذي اقتصاد ضعيف البقاء والمواجهة ولاسيما مع أن عولمة الاقتصاد والثقافة وأساليب العيش في شتى أنحاء العالم فرضت مسميات جديدة للأشياء، وتسمى العقليات القديمة التي لا تتقن حيوية الحركة في اتجاه نجاح السياسات الاقتصادية: منخفضات سلبية.
نقطة نظام
نقطة النظام التي وددت إثارتها تتعلق بآلية عمل المراقبة والتدقيق والمحاسبة، فعلي رغم أن ديوان الرقابة الإدارية والمالية حديث الولادة وأمامه مسئوليات جسام، فإنه من المفيد أن يكون هذا الديوان مراقباً عاماً على أداء المسئولين المشكوك في تورطهم في قضايا الفساد الاداري والمالي، لأن بقاء هذا النوع من المسئولين في مناصبهم، يعني أننا نؤّذن في «مالطا»، وأن كل الجهود التي تُبذل تذهب هباءً لأنها تصل إلى مكاتبهم وأيديهم فتسوء نتيجتها.
إذاً، نقطة نظامنا هنا الاعتماد على كوادر وطنية بحرينية مؤهلة في إدارة المرافق والإدارات التي تتطلب حضوراً من مسئولين أمناء أنقياء، أما بقاء أولئك الذين تلوثت أياديهم بالسطو على المال العام وتضييع الخطط وإفشال البرامج، فهم، في الحقيقة، قيود واقعية على الحركة التجديدية والانتعاش الاقتصادي والنماء الاجتماعي. وهنا نؤكد ضرورة قيام جهة مراقبة بالبحث عنهم وإقصائهم عن مناصبهم، وذلك لأن وجودهم مضر.
أعتقد أن بعض المسئولين في قطاعات حكومية معنية بتشجيع الاستثمار لايزالون غير مدركين فلسفة البحث العلمي كسبيل للتطور والقفز على الحواجز الذاتية التي يضعها بعضهم حتى في وجه أصغر تاجر أو لنقل شاب عاطل عن العمل يرغب في فتح مشروع صغير يكسب منه رزقه... إذا كان هذا المسئول لا يتقن التعامل مع مشروع صغير جداً، فكيف يمكن أن يتعاطى مع مشروعات كبرى تستلزم معرفة علمية عميقة؟
هنا مكمن الخلل
لنقرأ بشكل سريع ما تم طرحه على بساط البحث ضمن اجتماعات التجمع الاقتصادي العربي الذي استضافته مملكة البحرين في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي 2003، بمبادرة ودعوة من جمعية رجال الأعمال العرب... لقد اعترف الكثيرون من الاقتصاديين بأن الإصلاحات الاقتصادية التي شهدتها المملكة والمتمثلة في فتح الباب أمام الاستثمارات المحلية والعربية والأجنبية وتفعيل التعاون الاقتصادي العربي، هي في واقعها إصلاحات مرتكزة على أساس قوي من النظرية، إلا أن الإشكال سيتمثل في التطبيق مستقبلاً! لكن كيف؟ إذا لم تتولّ إدارة مسارات تلك الإصلاحات وركائز خطتها كوادر من الخبرات الوطنية المتمتعة بعقليات منفتحة؟! ونسأل: هل تلك العقلية التي تغطي على التجاوزات والمخالفات التي لا تتوافق مع القانون جزء من شفافية وانفتاح المرحلة، أم هي معضلة؟ فحين يدافع مسئول ما عن خطأ فادح تم ارتكابه ليلحق ضرراً على المدى البسيط أو القريب بالاقتصاد، هل يمكن اعتبار تلك غلطة «الشاطر» التي تحسب عن «عشر» اعتباطاً، أم تتطلب حزماً في التعامل مع مثل هذه الأخطاء؟
من الأهمية بمكان قراءة واقع الاقتصاد بعين منصفة ويد حازمة لا «تطبطب على أكتاف» المرتشين والذين لا يولون أهمية لمصلحة البلاد! والأغرب من ذلك، أن هناك من يسيء إلى مصلحة البلد ويلقي بعبارات اللوم والهجوم على آخرين «لا تهمهم مصلحة البلد»! لكن المواطن البحريني، ليس ساذجاً إلى الدرجة التي يمكن أن تنطلي عليه مثل هذه الشعارات المكشوفة غالباً.
ولعلي هنا أشير إلى مقال كتبه الأخ فاضل عباس في إحدى الصحف المحلية بعنوان «الإصلاح في المجتمعات غير الديمقراطية... البحرين نموذجاً»، عرّج فيه نحو التجربة بالقول نصاً: «وتعتبر البحرين والمغرب تجارب جريئة في الإصلاح المجتمعي، ففي البحرين تمت عملية الإصلاح بإرادة مزدوجة بين الشعب وجلالة الملك، وعندما اتفقت الإرادة كانت المكاسب الوطنية أكبر فنشأت النقابات والاتحادات والجمعيات السياسية والنيابة العامة، وبدأت تنمية القرى والمدن وحرية الصحافة بعيداً عن القذف والتشهير في الآخرين من دون أدلة ثابتة، وكل هذه المكاسب لم تستطع أن تحققها الأحزاب الشمولية طيلة فترة حمل السلاح»... انتهى الاقتباس.
وأردت من سوق هذه الفقرة تأكيد مبدأ تحقق عملية الإصلاح بالإرادتين الملكية والشعبية، وهو ما يدفع في اتجاه تحسين مستويات المعيشة والتنمية الاقتصادية الشاملة كمطلب كبير، وإن كانت تجربتنا الإصلاحية جريئة، فإن التطلعات إلى حصن اقتصادي منيع هو الأساس القوي للانطلاق لجوانب التنمية كافة، فمن دون اقتصاد متطور وحيوي، لن تتحقق أمنيات الاستقرار الاجتماعي والرفاهية. وان الحراك الديمقراطي في إكمال مؤسسات المجتمع المدني، يبتغي منه إكمال تلك السلسلة المرتبطة من حلقات التنمية الشاملة، ويبقى الاقتصاد أمراً أساسياً، لتتعزز أهمية أن تتولى إدارة شئون الاقتصاد كوادر ذات عقليات متنورة، ولا بأس من الاستعانة بالخبرات الأجنبية.
إذا كنا نسعد بتحقيق المراتب المتقدمة في التنمية البشرية، فلابد أن نسعد أكثر بتحقيق نمو اقتصادي يحافظ على مكانة المملكة كمركز مالي في الخليج ومنطقة الشرق الأوسط
العدد 712 - الثلثاء 17 أغسطس 2004م الموافق 01 رجب 1425هـ