الحديث عن القضية الأكثر جدلاً هذه الأيام وهي الصناديق الخيرية وأدوارها في المجتمع البحريني، يدفعنا إلى الحديث عن دورها ومسئولياتها تجاه عملية خلق الهوية الوطنية التي بدأت في التبلور منذ دخول الأسرة الحاكمة إلى جزر البحرين في العام 1783 بحسب رواية الجغرافي البحريني محمد أحمد في دراسته القيّمة.
وفي البداية لابد من الإقرار بأن مهمة الصناديق الخيرية في الأساس هي إغاثة الفقراء، ومعاونة المحتاجين في المجتمع. وفي ضوء هذه الحقيقة فإن هناك العشرات إن لم يكن المئات من الأسر تعيش على المساعدات الشحيحة التي تقدمها إليها هذه الصناديق. ولكن هل هذه المساعدات تكفي لإعاشة هذه الأسر؟ وهل الطرق التي تنتهجها الصناديق الخيرية كفيلة بمعالجة حالات الفقر والعوز المنتشرة في المجتمع؟ وما علاقة كل ذلك بالسياسة والهوية الوطنية؟
للتعرف على ذلك أعتقد أن ضرب أمثلة من الواقع الحيّ يكفي لسبر الغموض الذي قد يكتنف هذه العلاقة. فيروي أحد المشتغلين في إحدى مؤسسات العمل الخيري في محافظة المحرق، وهو من أصحاب الخبرة في هذا المجال، إذ عمل بشكل تطوعي لما يزيد عن عشر سنوات، يقول إنه في أحد الأيام جاءت إحدى الأسر البحرينية التي يعتقد بأنهم طبقاً لظروفهم يعيشون تحت خط الفقر، وكانت حالهم رثّة للغاية وطلبوا من المسئولين في هذه المؤسسة المساعدة والعون بعد أن رفض الصندوق الخيري في المنطقة التي يقيمون بها تقديم المساعدة لهم بسبب محدودية الموارد المالية وكثرة الأولويات. فما كان من هؤلاء المسئولين في تلك المؤسسة الخيرية إلا أن قدموا إلى هذه الأسرة الفقيرة الوعود، وسوّفوا طلباتهم لتتبخر في الهواء، كل هذا ليس لشيء، وإنما لاختلاف مذهبهم فقط. فهم يعلمون تماماً بأنهم محتاجون وفقراء، ولكنهم آتون إليهم من تلك المنطقة التي يعيش فيها مواطنون ولكنهم يخالفوننا في المذهب، وهناك مؤسسات أخرى ترعاهم، وعليه يجب عدم تقديم أي عون أو مساعدة له ولأسرته.
مثل هذه الحادثة تشير إلى واقع مرير مازال المجتمع البحريني والعاملون فيه يخجلون من مجابهته ومواجهته. فإذا كانت الدولة غير قادرة على منح المواطن الفقير المساعدة الكافية لإعالته وأسرته، ويذهب إلى الصندوق الخيري في منطقته، أو إحدى المؤسسات الخيرية التابعة لطائفته وترفض مد يد العون فمن لهذا المواطن البائس؟
طبعاً لقد حققت الصناديق الخيرية الكثير من الإنجازات في المجتمع، ولكن الواقع مؤلم وبحاجة إلى مواجهه قوية، وخصوصاً في ظل سيطرة اتجاهات معينة من التيار الإسلامي على مثل هذه المؤسسات. فإذا تناولنا على سبيل المثال الصناديق الخيرية التي يقوم عليها السنة، سنجدها متوزعة بين التيارات الإسلامية السنية المختلفة، فبعض الصناديق تابعة لتيار الإخوان، وأخرى تابعة لتيار السلف باتجاهاته الثلاثة. وطبعاً هناك صراع عميق دائر بينها باستمرار، وتنافس ليس لتقديم المساعدات للناس المحتاجين، ولكنه تنافس من أجل السيطرة على مناطق البحرين.
وقد يكون من الغريب التنافس من أجل السيطرة على المناطق، ولكن مثل هذه السيطرة عبر هذه الصناديق يعني أنها ستكون سيطرة على المنطقة وسكانها أجمعين، وهو ما يتيح المجال للدعوة إلى أفكار التيار، وفرصة للتجنيد التنظيمي، بمعنى ضم أفراد جدد للتيار ومؤسساته. وهذا دليل مهم على الاتجاهات الطائفية والمناطقية التي تعبر عنها الصناديق الخيرية.
في السابق لم تساهم الممارسات السياسية في النظام السياسي البحريني في خلق ثقافة وطنية جامعة، ولاسيّما بعد الاستقلال وسيادة قانون أمن الدولة بتداعياته المتفاقمة حتى اليوم بسبب قوة البنى التقليدية، ولكن منذ الاستقلال لم تظهر فرص جيدة بالإمكان الاستفادة منها في تذويب البنى التقليدية التي هيمنت عليها أفكار دخيلة دائماً، وكانت إرهاصات لما ستئول إليه الأوضاع لاحقاً في الصناديق الخيرية، وغيرها من المؤسسات الإسلامية والدينية.
ولكن الوضع في البحرين اختلف تماماً اليوم وأصبحت هناك فرصة تاريخية للبدء منذ الآن في بناء الثقافة والهوية الوطنية المطلوبة حتى تظهر بعد عدة عقود مقبلة. وهنا يمكن إثارة قضية دور وعلاقة الصناديق الخيرية بخلق الهوية الوطنية. فإذا كان هناك تصورٌ مشترك بأن الممارسات السياسية السابقة أعاقت تأسيس ثقافة وطنية قادرة على تشكيل هوية وطنية، فإنه من الضرورة بمكان حشد كل قدرات وطاقات البلد وتوظيف مختلف الممارسات من أجل تحقيق هذا الهدف الذي يأتي في سياق بناء الوحدة الوطنية للمجتمع البحريني.
ونظراً إلى أن الصناديق والمؤسسات الخيرية هي جزء من مؤسسات المجتمع المدني، فإنه لابد لها أن تقوم بتغيير نظرة الناس للعمل الخيري القائم على الطائفية أو المناطقية الذي كان واضحاً في المثال السابق، حتى تتغير الثقافة التي تتسم عادة بالتغير النسبي، وتصبح ثقافة رافضة مثلاً لممارسات الصندوق الخيري الشيعي الذي يسعى إلى تقديم المساعدات للشيعة في كرّانة فقط، بل يجب أن تصبح ممارسات الصندوق السني في قلالي مثلاً قائمة على نظرة أوسع تتعدى هذه، ويقوم بتقديم المساعدات للمواطنين الشيعة في سماهيج المجاورة.
أيضاً هناك مشكلة مرتبطة بدور الصناديق في عملية خلق الهوية تتعلق بقلّة الإمكانات المادية، فإذا كان الصندوق لا يملك التبرعات الكافية لتقديم المساعدات لأبناء المنطقة التي يعمل فيها، فكيف يقوم بتقديم المساعدات لأبناء المناطق الأخرى.
هناك حادثة أخرى يرويها الشخص نفسه الذي ذكر الحادثة السابقة، إذ قال إنه في اليوم الثاني لأحد أعياد الأضحى تحديداً قام مع أحد زملائه بتوزيع لحم أضحية العيد على أحد الفقراء في قرية قلالي، وعندما ذهب إلى بيته القديم وشبه الآيل للسقوط، ظهر لهم كهل عجوز، ورحب بهم، وأخبروه بأنهم من هذه المؤسسة الخيرية ويرغبون في تقديم لحم الأضحية له وأسرته، فتغير وجهه، وطلب منهم الانصراف وأخذ اللحم، وحاولوا معهم كثيراً لأنه لا يمكن ألا يأخذه من دون أن يبرر سبب ذلك، وبعد إلحاح منهم أخبرهم بأنه ليس لديه ثلاجة يمكن أن يضع اللحم فيها دون أن يتلف، فصدموا للغاية. بعدها ماذا حدث؟
عادوا مرة أخرى والذهول والحزن يعصر قلوبهم، وأخبروا المسئولين في المؤسسة الخيرية التي كانوا يعملون بها بما حصل، فتجاوب المسئولون للقضية، وقاموا بزيارته ومعاينة حالته، ولكنهم لم يقوموا بتقديم العون إليه بسبب عدم وجود الموازنة الكافية لذلك.
من هنا تأتي أهمية توحيد ودمج مؤسسات العمل الخيري، لأن مشكلة تشتت العمل الخيري بين الجمعيات والصناديق لا تساعد على الاستفادة بشكل حقيقي من الإمكانات المادية المتاحة في مجال العمل الخيري، فالتبرعات كثيرة، ولكن المستفيدين منها قلائل. وهناك عوائل تتلقى مساعدات من عدة جهات خيرية، كل منها يعطيها 30 ديناراً شهرياً تقريباً، ويبلغ مجموع ما تتلقاه نحو 150 ديناراً، فإذا كانت هناك مؤسسة خيرية واحدة لديها إمكانات مادية أكبر بدلاً من توزيعها على شكل مساعدات صغيرة، فإنه بإمكانها أن تكون المساعدة أكبر ومن جهة واحدة قادرة على مضاعفة التبرعات، وتطويرها واستثمارها للمستقبل من أجل الفقراء والمحتاجين. وعودة مرة أخرى لتسييس العمل الخيري، فالجميع وقف مشاهداً الاستغلال الرهيب الذي قامت به هذه الصناديق خلال الانتخابات البلدية والنيابية الأخيرة، وكان دورها سلبياً للغاية في توظيف الدين واستغلاله بشكل دعائي صرف من أجل استحقاق انتخابي. وهذا كله أفرز لاحقاً حالاً من الهوس بإنشاء البعض صناديق خيرية من أجل الحصول على الوجاهة، والاستعداد للانتخابات المقبلة، أو من أجل النفاق للحصول على منصب سياسي، كما هو الحال بالنسبة إلى بعض الصناديق (التي لا نود ذكرها). والآن هناك توجه لدى بعض الجمعيات السياسية لتأسيس مؤسسات أو لجان خيرية تابعة لها!
وهذا كله يعدّ تفسيراً واضحاً لتسييس العمل الخيري، وإذا كان البعض يؤكد عدم وجود أي تسييس أو طائفية فيكفي دراسة الأسباب التي دعت إلى تأسيس صندوقين خيريين في كل من مدينة حمد ومدينة عيسى والمحرق، والسبب طبعاً يعود إلى الطائفية، فعندما يقوم الشيعة بتأسيس صندوق خيري في إحدى هذه المناطق فإن النعرة الطائفية تبرز، ويقوم السنة كردة فعل طبيعية بإنشاء صندوق آخر، والعكس صحيح. وجاء مشروعا اتحاد الصناديق الخيرية ليعكس هذه الإشكالية بشكل صريح.
خلاصة القول فإن الصناديق الخيرية تبقى مؤسسات معنية بإغاثة الفقراء فقط كما ورد في أنظمتها الأساسية، ولكن سيطرة الأشخاص من ذوي الاتجاهات الطائفية أو المناطقية قد أفرز ممارسات خاطئة، أصبحت تضرّ المجتمع أكثر مما تنفعه، وخصوصاً إذا كانت لا تخدم الهوية والوحدة الوطنية للبلاد
العدد 711 - الإثنين 16 أغسطس 2004م الموافق 29 جمادى الآخرة 1425هـ