في ظاهرة غريبة عرفها العالم العربي والعالم، التزم ساستنا ومعهم الساة الأجانب الصمت تجاه الجرائم التي ترتكبها القوات الأميركية ومعها ميليشيات علاوي التابعة لها بحق المواطنين العراقيين على طول العراق وعرضه باستثناء الشريط الكردي شمال البلاد.
إن ما يحدث في العراق اليوم فاق كل التوقعات، وخصوصاً أنها تأتي بعد أكثر من عام ونصف على ما سمي «تحرير العراق»، إذ إن أشلاء إخواننا في الدين والعرق واللسان تتناثر يومياً بالمئات أمام أعيننا عبر ما تبثه الفضائيات، ولا من راد ولا من مستنكر، إذ الكل منصرف إلى شئونه الداخلية، وإلى التنمية المحلية والمخططات الخماسية والسداسية وبرنامج جلب مليون سائح، أو استنفار القوى من أجل تحقيق النصر المبين في أولمبياد اليونان، أو إلى العمل على إنجاح هذا المهرجان أو ذاك، حتى بات لكل مدينة من مدننا العربية مهرجانها على أمل أن يصبح لكل زقاق مهرجانه، ربما احتفاء بدمائنا المراقة في شوارع النجف الأشرف، أو الفلوجة أو في قطاع غزة أو الضفة الغربية على أمل أن يكتمل الاحتفاء بعد أن تنتقل شلالات دمنا الهادر إلى مدن عربية أخرى، وهو ما بات يظهر في الأفق على الأقل في السودان المرشح لعضوية نادي الدول المعاقبة اقتصاديا (وهي عموماً عربية فقط العراق وليبيا)، ولنا أن نتساءل: إذا كان العراق بجلالة قدره وبقدراته الاقتصادية والبشرية قد أصابه ما أصابه خلال الحصار العربي الإسلامي بين العامين 1990 و2003، فكيف سيكون الأمر بالنسبة إلى إخواننا السمر في السودان؟ لا داعي للإجابة فالأنظار كلها موجهة نحو أثينا جريا وراء انتصارات وهمية لرفع علم هذه الدولة أو تلك من دولنا الـ 21 العربية حتى لو كانت محتلة بالكامل أو جزئيا.
وبالعودة إلى ما يجري في العراق حيث أن شباباً حافياً عارياً يحمل بين يديه قطع سلاح بسيطة هي ما تبقى من ترسانة العراق الحربية يجابه بها طاغوت العصر بدباباته وطائراته وصواريخه، اختار الدفاع عن شرف الأمة وكرامتها ومقدساتها على رغم مزايدات المنبطحين ممن تسللوا إلى عاصمة الرشيد على متن دبابات الأميركان، وعلى رغم الصمت الذي ضرب بأطنابه على «أولي الأمر» من دون أن يحركوا ساكنا أو يتوسلوا السيد بوش لعله يعود إلى رشده، محلفين إياه بالمساعدات التي قدموها لأميركا ومازالوا، حتى لا تدنس أحذية جنوده مقدساتنا في النجف والكوفة وكربلاء، وألا تقصف طائراته مآذن الفلوجة، وأن تتريث قواته وتضبط نفسها كي لا تقصف منازل الآمنين، وإذا فعلت فعلى الأقل أن تقوم بذلك بعد أن تضمن عدم وجود كاميرات القنوات الإخبارية، حتى لا تثير مشاعر مواطنينا، أو أن تفعل ذلك خلال لعب المنتخبات العربية حتى تضمن عدم اهتمام جماهير بني يعرب بما هو حاصل في بلاد الرافدين. إن ما يجري في العراق، هو شيء خطير جداً، إذ إن الولايات المتحدة تعمل على تحطيم وهدم الخطوط الحمراء الواحد تلو الآخر، وبالتالي فبعد أن قصف الصحن الحيدري الشريف في النجف ثالث المدن الإسلامية قدسية بعد المدينة ومكة وبعد أن أحيط ضريح الإمام علي كرم الله وجهه بالأسلاك الشائكة، من دون أن يسجل أي رد حتى من قبل الأنظمة التي تتخذ من الانتماء إلى نسبه شرعية في حكمها، باستثناء المسكين عمرو موسى، ربما بسبب يسر وسهولة وصول وسائل الإعلام إليه، فإنه لو قدر أن تعرضت قبلة المسلمين في مكة المكرمة، ومرقد رسولهم عليه الصلاة السلام في المدينة المنورة، فلن يكون هناك من أنظمتنا وحكوماتنا الرشيدة من يمنع أميركا أو حتى «إسرائيل» من ذلك، بعد أن روضتنا آلة الحرب الأميركية والإسرائيلية على ذلك في القدس الشريف أو النجف.
وإذا كان ما يحدث في العراق هو شيء طبيعي بالنسبة إلى الولايات المتحدة إذا ما وضع الاحتلال واستعباد العراقيين في السيرورة التاريخية، وباعتبار أن ما يحدث هو من سلوكيات أي احتلال، إلاّ أن ما هو غير طبيعي هو سكوت العواصم العربية على ما يحدث، ويا ليتها اكتفت بالسكوت، بل سارعت إلى تقديم كل سبل الدعم لقوات الاحتلال الأميركي، ومعه ميليشيات علاوي التي بات الإعلام العربي يطلق عليها زورا اسم القوات العراقية التي هاجمت بمساندة القوات الأميركية مدينة النجف عبر تجهيزها بالآليات وتنظيم معسكرات تدريبية لها، بعد أن ساهمت بطريقة أو بأخرى، وبشكل مباشر أو غير مباشر في احتلال العراق وتدمير دولته، وتقتيل شعبه واستباحة أعراض رجاله قبل نسائه إذ تفرج العالم بأجمعه على عوراتنا في معتقل «أبوغريب». إن ما يحدث اليوم لشعبنا العربي في العراق بسنته وشيعته، لن يتحمل الأميركان ومن والاهم من الغرب وزره، بل ستتحمل وزر هذه الأنهار من الدماء وهذا الكم من الذل أنظمتنا الحاكمة، ليس أمام شعوبها المغلوبة على أمرها أو المقتادة لمتابعة معارك وهمية سواء كانت رياضية أو فنية من قبيل السوبر ستار أو ستار أكاديمي، بل أمام الله، وأمام التاريخ الذي سيذكر العراق وما حدث لشعبه، وسيذكر في المقابل الاحتلال ومن ساعده من العرب والمسلمين. أما قادة المقاومة العراقية من جميع الاتجاهات شيعة أو سنة، بعثيين أو ما سواهم من التيارات السياسية، فلهم سفر الخلود في تاريخ أمتنا
العدد 711 - الإثنين 16 أغسطس 2004م الموافق 29 جمادى الآخرة 1425هـ