العدد 711 - الإثنين 16 أغسطس 2004م الموافق 29 جمادى الآخرة 1425هـ

مقتدى الصدر يريد أن ينزل من القطار!

«الانتصار في ألا تطلق طلقة واحدة»

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

هل الحرب الأهلية لها ألوان وأشكال مختلفة عن بعضها، وهل لها مواصفات دقيقة، بها لا بغيرها تعرف، وهل ما يحدث في العراق من صراع دموي، هو حرب أهلية أم حرب من نوع آخر؟ الحرب الأهلية، هي أن ينقسم أهل بلدٍ ما إلى فريقين أو أكثر، وكل فريق يريد أن يحكم بطريقته، ويفرض رأيه السياسي على الآخر بالقوة.

هذا ما حدث في كل الحروب الأهلية، والأماكن القريبة التي حدثت فيها مثل هذه الحروب في منطقتنا هي لبنان والسودان. في لبنان أراد فريق أن يتحكم في الفرقاء الآخرين، فولدت حرب تدخل فيها من أراد أن يتدخل، وخرج الفرقاء كلٌ مثخن بالجروح، الى درجة أن لبنان في الغالب هو الخاسر حتى يومنا هذا، وحدث ذلك في السودان، فبعد ثلاثة عقود من الصراع الأهلي الدموي لم يخرج أي فريق بنتيجة ترضيه، فلا أهل الشمال فرضوا وجهة نظرهم، ولا الجنوبيين حصلوا على ما ابتغوه.

في المجتمعات الناضجة يصل الفرقاء إلى حلولٍ وسط بأقل الكلف فيما اختلفوا فيه، فأهمية أن تنتصر في صراع، تساوي أهمية ألا تطلق طلقة واحدة.

في العراق كان القول قبل سقوط النظام العراقي السابق، ان حرباً أهلية لا يمكن أن تقع، ويهز محدثك كتفيه عجبا ويقول: «حرب أهلية في العراق؟ أنت إذا لا تعرف العراق وأهله»!

كان أولئك الحالمون قد تصوروا أن الأمور تسير كما يتخيلها البسطاء والسذج، وأن العراق محصن من احتمال كهذا، ولكن الوقائع تكذب كل من اعتقد أن حرباً أهلية لا تندلع، فما يحدث في العراق الآن هو نوع من الحرب الأهلية.

مقتدى الصدر منذ اليوم الأول الذي حرر فيه العراق من النظام السابق قرأ الحوادث كما أراد أن يقرأها، أراد أن يحكم العراق أو تخيل ذلك، وربما كان فكره مثبتاً على تجربة الامام الخميني في إيران منذ المحطة الأولى، ولو درسنا الهياكل التي أقامها مقتدى لتعرفنا على الصورة النمطية التي يتبعها. فمكاتب مقتدى الصدر منتشرة في عدد من المدن العراقية، وربما له بعض المكاتب في دول مجاورة، والمكتب بهذا المعنى هو أن يقوم شخص له صفة دينية ويدعي تمثيل مقتدى الصدر، يتحدث بلسانه ويشرح مواقفه، وربما أيضاً يقدّم للناس، وخصوصاً المحتاجين، بعض المعونات المادية.

وجيش المهدي فكرة قابلة للانتشار، فهو يذكر البعض بتراث راسخ في الأذهان (المهدي المنتظر)، واستجلاب هذا التراث يتم بسرعة، وتمثيله جاهز لدى العامة لا يحتاج إلى عناء.

إلا أن ما فات السيدمقتدى الصدر أن يعرفه، أن حمل السلاح ضد الدولة القائمة يعني العصيان، والتهديد بفصل الجنوب يعني الانفصال، وأن تركيبة العراق العرقية والإنسانية تختلف جذرياً عن إيران، التي نجحت فيها تجربة الخميني في الوصول والبقاء في السلطة، وتقديم نوع مختلف من الحكم.

العراق له تجربة مختلفة تماماً من حيث النسيج الاجتماعي والعقائدي والفئوي والتاريخي، كما أن الزمن اختلف تماماً عما كان عليه عشية الثورة الإيرانية، إذا أضفنا إلى كل ذلك حساسية الجوار العراقي، من الجنوب والشرق، فإننا نتيقن أن ما يحاوله السيدمقتدى الصدر لا يخرج عن عملية انتحارية، في أسوأها وعن عملية لا تتسم بالذكاء السياسي في أحسنها حالاً.

مقتدى الصدر لا يمكن أن يكون حسن نصرالله في لبنان، فحزب الله اللبناني على ارتباطه بالمرجعية الشيعية كقاعدة للحشد والتأييد والمناولة، إلا انه يعمل عملاً سياسياً من الدرجة الأولى، ويعرف الخريطة الاجتماعية والسياسية اللبنانية، وخريطة المحيط، بما فيها المحيط الدولي.

مقتدى الصدر وحركته أمام طريق مسدود، لا يؤدي إلى أن يكون هو الزعيم (الأوحد) في ظل تجربة عراقية سقيمة مع الزعماء المتفردين، وفي ظل تعددية يتوق إليها العراقيون على اختلاف مشاربهم السياسية.

لا يستطيع مقتدى، حتى لو أراد، أن يدعي الحديث عن البيت الشيعي العراقي بكامله، فحسن نصر الله لم يدّع ذلك في بلد أصغر يشكل الشيعة فيه أقلية نسبية، فالشيعة في لبنان بين حزب الله وأمل وبقية مستقلة لا تنتمي إلى هذا أو ذاك، بل إن المستقلين يكبرون في الحجم والتأثير، وجميعهم يتفقون ويختلفون، ولكن لا يدعي أحد منهم نفي الآخر أو الحديث باسمه، فهناك خطوط حمراء لا يتخطاها أحد.

وهناك في العراق من لم ينتبه إليهم مقتدى، هناك مراجع شيعية، وهناك قوى شيعية سياسية لا تسلم لمقتدى لا من حيث الخبرة السياسية، أو الموقع الديني بالقيادة، أو تعترف له بالتفرد. فهل يقود مقتدى نفسه وأتباعه إلى التهلكة، التي نهى عنها الإسلام بوضوح، أم أن تصوّره قد تشوش إلى درجة أن قناعاته غير الواقعية هي التي تقود، وستقود آلاف الشباب العراقي معه الى معركة خاسرة؟

يقف كثير من العراقيين موقف الخائف الوجل من أن ينطقوا بما يجب عليهم أن ينطقوا به، وهو مخالفة مقتدى في التصور وفي الفعل، بل إن بعضهم، كما حدث في الأسابيع الأخيرة، قد خضع للابتزاز السياسي، فمنهم من تبرأ مما يفعل، ومنهم من أوقف حتى ضخ النفط في الجنوب.

بعض السياسيين الذين دخلوا مع القوات الدولية للعراق، ووجدوا أنفسهم بعيدين عن السلطة التي يتوخونها، قاموا بالتزلف إلى هذا الجسم السياسي المتطرف أو ذاك، سباقاً على السلطة أو تنافساً مرضياً عليها. وفعلهم ذاك هو لعبٌ بالنار، فسرعان ما يعرفون أن التسلط لعنة واحدة، وإن تغيّرت الوجوه، فتمكين المتسلطين اليوم كرها في هذه الفئة أو تلك، سرعان ما ينقلب عليهم.

ما يحدث في العراق الآن، يقود إلى حرب أهلية حقيقية، ودول عدة لها مصلحة أو تتمنى أن يفوز هذا التيار أو ذاك في هذه الحرب، وسيعرف العراقيون أن التحالفات والتكتيكات قصيرة الأمد هي مصيدة للوطن، فلا تحالف إلا مع التعددية وسيادة القانون، لأن غيرها خسارة فادحة، فإن استمرت هذه العبثية ستقود لا محالة الى تقسيم العراق الذي نعرف، كما قسمت تلك الجزيرة التي اسمها قبرص، الى فسطاطين لم يلتئما حتى الساعة. قطار العراق قد قام متوجهاً الى محطة التعددية والديمقراطية والتنمية، وهو طريق صعب ومضن، البعض يريد أن يحرف طريق العراق أو يقفز من القطار، والقفز يعني الموت لا محالة، فقطارات الدول لا تتوقف بسبب رغبة أشخاص

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 711 - الإثنين 16 أغسطس 2004م الموافق 29 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً