قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية الدورية (كل أربع سنوات مرة) تزداد ظاهرة الاستقالات من الإدارة وتبدأ الوجوه البارزة بالانسحاب من الساحة حتى لا تلام على ما فعله البيت الأبيض في الفترة الماضية. هذه الظاهرة عادية وتحولت حديثاً إلى عادة أميركية. فهناك الكثير من المسئولين يستفيدون من مناصبهم المهمة بعد تقديم استقالاتهم، فمنهم من يتحول إلى مستشار أو باحث أو أكاديمي يحاضر في الجامعات ومنهم من يتحول إلى كاتب ينشر المذكرات والوثائق أو سيرته الذاتية. فالمنصب في أميركا ليس مجرد موقع للتسلط وإنما هو وسيلة للشهرة وكسب المال حين يغادر المسئول مقعده الرسمي ويبدأ بطرح الأفكار النقدية ويكشف الفضائح ويقدم الاقتراحات وينتقد سلوك الإدارة.
الآن تشهد إدارة بوش ما يشبه «موسم الهجرة» من المناصب قبل أسابيع من اكتمال عقد الدورة الجديدة للانتخابات الرئاسية. ولاشك في أن إدارة بوش هي الأكثر إثارة للجدل لما حوته من شكوك وظنون وتسلط «كتلة الشر» على «البنتاغون» وقيادتها سلسلة حروب منذ وقوع هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
أخبار هذه الإدارة كثيرة وأسرارها أكثر. وصدر عنها حتى الآن - من مسئولين غادروا مناصبهم - الكثير من الكتب التي تفضح الأكاذيب وتكشف الحقائق. فإدارة بوش انكشفت قبل أن يحين موعد قطافها. ويرجح أن تنكشف المزيد من الأسرار وتتضح الحقائق في حال سقط بوش في معركة نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
إلا أن هذا السيل من الكتب يثير أسئلة محيرة. فهي ليست كلها على سوية واحدة من القيمة التوثيقية، ويغلب على معظمها الطابع السردي وبعضها الآخر يغلِّب خلافاته الشخصية أو نزعته الفردية على المعالجة الموضوعية، ولكن هذا السيل في مجموعه يطرح أسئلة كثيرة عن مصير الإدارة، ومستقبل الولايات المتحدة، والاتجاهات التي تعصف بها، وإلى أين تقودها «كتلة الشر»؟
أسئلة تتوخى الانتباه وخصوصاً من كتابات خطرة تقدم نفسها للقارئ أو الرأي العام أو الناخب الأميركي وكأنها «البديل» الموضوعي، بينما هي ليست كذلك. فهناك كتابات نقدية للإدارة الأميركية سيئة في منطلقاتها وتوجهاتها، بل هي أكثر عنصرية وكراهية للعرب والمسلمين من طاقم البيت الأبيض الذي يقود الآن السياسة الخارجية. وهناك كتابات صدرت ضد إدارة بوش؛ لأن الأخيرة لم تكن متطرفة كفاية ومترددة في استخدامها العنف والقوة العسكرية.
لابد إذاً من التمييز بين كتب انتقدت الإدارة الأميركية، وكتب انتقدتها لأنها لم تتجاوب مع اقتراحات معينة، وكتب لجأت إلى المراجعة النقدية للسياسة. فهناك فارق كبير بين من ينتقد السياسة ومن يراجعها. فمن يراجع هو الأفضل، لأنه لا يكتفي بالانتقاد وتوجيه الملاحظات ووضع علامات على استراتيجية محددة، بل إنه يضيف إلى كل تلك السلبيات مجموعة قراءات نقدية تراجع خطأ تلك السياسة من منطلقاتها وأهدافها. فالمراجعة تعني تجاوز النقد نحو درجة أعلى من الرؤية فتنظر إلى العالم وعلاقاته من زاوية توازن المصالح وتعددها وترفض أن ترى في العالم سوى الولايات المتحدة ومصالحها أو تضغط على الإدارة المقبلة لتكون أميركية أكثر مما وصلت إليه واشنطن الآن في سياساتها التدميرية. فالنقد شيء والمراجعة النقدية مسألة مختلفة. وبسبب هذا الالتباس هناك الكثير من النخب العربية (المثقفين تحديداً) يسقطون بسهولة في أفخاخ كتب يتوهمون أنها ضد الإدارة الأميركية، وبالتالي فهي آلياً لابد أن تكون مع العرب. وهذا ليس بالضرورة الأمر الصحيح.
الكاتب الأميركي، أو المسئول السابق، أو الناقد السينمائي، أو صاحب الرأي عندما يكتب أو يخرج شريطاً سينمائياً لا يفكر بالجمهور العربي ولا بالمشاهد العربي... فهذا هو الهمُّ الأخير لديه. فهؤلاء وغيرهم حين يكتبون يفكرون بداية بالجمهور الأميركي. فالولايات المتحدة هي الساحة والمساحة والهدف وحين ينظرون إلى الأشياء يتطلعون إليها من زاوية أميركية ومصلحة أميركا... وليس عندهم أي انتباه أو اكتراث لما يصيب غيرهم، إلا في حدود نسبية نجدها فقط عند تلك الفئة القليلة التي تلجأ عادة إلى مراجعة شاملة للسياسة.
خطورة هذه الكتب (والأفلام أحياناً) أنها تخدع القارئ العربي (والمشاهد العربي)، بينما هي أصلاً موجهة للجمهور الغربي (الأميركي تحديداً)، وبالتالي فإن خطابها النقدي يقتصر على الجزئيات التي تمس مصالح الناخب (دافع الضرائب) ولا تذهب كثيراً إلى تناول الكليات التي تبحث في أصل المشكلة وأسبابها البعيدة.
النقد الجزئي غير المراجعة الكلية، وهذا هو الفارق بين الجلاد والضحية. فالأول ينسلخ عن إدارته لأنه اكتشف أنها لا تقوم بمهماتها بشكل صحيح وكما يراها، والثاني يُسلخ جلده بغض النظر عن الحاكم الأميركي.
هذا هو الفارق. والفارق كبير إلى حد يمكن فيه ملاحظة الغث من الثمين في هذا الكم من الكتب التي تهبط على السوق قبل أسابيع من كل دورة رئاسية أميركية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 709 - السبت 14 أغسطس 2004م الموافق 27 جمادى الآخرة 1425هـ