مر أكثر من نصف قرن على مسلسل الصراع الإسرائيلي العربي، ودخلت حرب «إسرائيل» ضد فلسطين سنتها الرابعة. ولا يبدو أن الأفق يحمل إضاءات تؤذن بنهاية الصراع والحرب، وبالأحرى ما يؤشر إلى أن السلام العادل الشامل قريب المنال. إنه المأزق فهل من مخرج منه؟ راهنت الفعاليات الفلسطينية على أن تكون الانتفاضة التي امتدت إلى اليوم وسيلة التحرير للأرض المغتصبة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. وراهن شارون - عندما خطط وقرر شن حرب شاملة على شعب فلسطين سماها «حرب الجحيم» - على أن يكسبها في أَجَل أقصاه مئة يوم بالتمام والكمال.
احتدم الصراع بين «إسرائيل» وفلسطين. وأنزل كل طرف بالآخر ضربات دامية موجعة قاسية لم تكن - طبعا - متكافئة، لأن شارون استعمل في حربه المسعورة السلاح المتطور لإبادة شعب فلسطين بالكامل، وتخريب أرضه وتدمير منشآته، وشفا غليله وتعطشه إلى الدم الفلسطيني فقتل من الفلسطينيين 3440 شهيدا (إلى حد كتابة هذه السطور). أما المصابون بالجروح والإعاقة فلا يحصى لهم عد، لكن ما سقط من الإسرائيليين طيلة هذه الحرب فاق بكثير ما سقط منهم في مسلسل جميع الحروب العربية الإسرائيلية منذ الحرب الأولى سنة 1948 إلى اليوم. ولم يحقق شارون لشعبه الأمن الشامل المفتقد الذي وعده به ومناه، على رغم أنه حَوَّل الشعب كله إلى مؤسسة عسكرية مدججة بالسلاح، في طليعتها قوات الجيش الإسرائيلي النظامي رابع جيش متطور في العالم، وميليشيات المستوطنين الذين يعيشون في «إسرائيل» وهم يحسبون كل صيحة عليهم. هذا إلى الفِرق «المدنية» المسلحة التي قال عنها أحد الكتاب «إنها لا تضطجع في ليلتها الفراش والوسادة، بل تبيت على البندقية أو تتوسدها تحسبا لما يأتي وما لا يأتي». وتعاني «إسرائيل» تحت حكومة شارون العسكرية ما يسميه المحللون الإسرائيليون «القنبلة الديمغرافية»، إذ يزكو شعب فلسطين وينمو، وتخشى «إسرائيل» على نفسها من أن ترجح في المستقبل كفة الشعب الفلسطيني على كفة الشعب الإسرائيلي. وهو هاجس يقول عنه السياسيون الإسرائيليون إنه يؤرق مضاجعهم، لكنه تضليل مقصود؛ إذ عندما اعترفت الأمم المتحدة لـ «إسرائيل» يوم نشأتها بحقها في إقامة الدويلة اليهودية على جزء من فلسطين لم يكن عدد اليهود يتجاوز 300,000 ألف. وها هم يبلغون اليوم ستة ملايين نسمة، لكن «إسرائيل» تتصرف تصرف جهنّم: «يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد؟» (ق: 30). هذه الملايين من الدخلاء التي يَعِج بها الجزء المغتصب من فلسطين المسمى «إسرائيل»، ليست جميعها يهودية كما تدعي «إسرائيل»... معظمهم جاءوا من الاتحاد السوفياتي السابق ولم يكونوا يعتنقون الديانة اليهودية، بل كانت أكثريتهم لا دينية، وأكثر من ذلك كان بعضهم مسيحيا. ومن سموا بيهود الفلاشة السود الذين قدموا على «إسرائيل» تحت ضغط الفقر والبؤس لم يكونوا هم أيضا يهودا، بل كان من بينهم حتى عناصر بوذية أو روحانية. لم يأتوا إلى «إسرائيل» ليندمجوا فيها كشعب يهودي عليه تقوم الدولة اليهودية. وبعد قيام الانتفاضة الفلسطينية سجلت في «إسرائيل» ظاهرة الهجرة العكسية، إذ رحل عنها بالآلاف من كانوا جاؤوا إليها طامعين، فلم يجدوا في أحضانها ما كانوا يتطلعون إليه من رغد العيش، وبالأحرى لم يجدوا فيها جنة النعيم الموعودة. وأكثر من ذلك عاشوا فيها مفتقدين الأمن الذي لاتلذّ حياة بفقده. فلم يسعهم - والحالة هذه - إلا شد الرحال وأرض الله واسعة. نفهم إذاً تحرق شارون على التغرير باليهود عبر العالم لحملهم على النزوح إلى «إسرائيل». ونفهم حرصه على إدامة احتلال الضفة الغربية أو التنازل عن غزة فقط لتسلم له أجزاء شاسعة من أرض فلسطين يقيم عليها مستوطنات هؤلاء النازحين الغرباء في حرص منه على تأجيل تفجر القنبلة الديمغرافية ولو إلى حين. ونفهم لماذا يرفض شارون تطبيق القرار الأممي 194 (بل حتى الحديث عنه) القاضي بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مساقط رؤوسهم أو التعويض. ونفهم لماذا خلق أزمة بينه وبين فرنسا عندما دعا اليهود الفرنسيين إلى النزوح إلى «إسرائيل»، وزاد مكلفا نفسه عناء استقبالهم بالمطار ولم يكونوا يتجاوزون المئتين، تلك الأزمة التي انضافت إلى مسلسل أخطائه، واضطر معها إلى كيل المديح لجاك شيراك لموقفه المشرف من معاداة السامية، وخصوصاً بعد أن كانت حصيلة اليهود الوافدين من فرنسا هزيلة لا تستأهل الأزمة المفتعلة. أما الأزمة الاقتصادية الإسرائيلية التي خلقتها حرب شارون على فلسطين فتصدر بشأنها إحصاءات مهولة تحكم بالفشل الذريع على ولايته، على رغم أن الولايات المتحدة هي التي تصرف على «إسرائيل» في غالبية ما تعيش به طبقا لما كان قال عنه الرئيس أنور السادات من أنها تمنح «إسرائيل»... من الزبدة إلى الفانتوم. وشارون اليوم معزول مطوق من لدن الكنيست، يفلت من ملتمس الرقابة كل مرة بغالبية صوت واحد. ويبدو كرهائن مقاومة العراق، يُحبس في انتظار الإجهاز عليه. وامتدت طيلة أسابيع محاولاته لتوسيع قاعدة حكومته. والفعاليات السياسية التي عرض عليها المشاركة اشتطت في مطالبها وشروطها. وإذا ما قدر لهذه الحكومة أن ترى النور فلن تكون حكومة وحدة وطنية بل سفينة نوح فيها من كل زوج اثنان مشحونة بتناقضات منذرة في كل وقت بالانفجار. والجدار العازل (أو سد يأجوج ومأجوج) لم يعزل الفلسطينيين إلا بمقدار؛ فالمقاومة الفلسطينية المسلحة تتسرب من حين إلى آخر إلى قلب «إسرائيل» من الأبواب المفتوحة والمغلقة، بل الجدار العازل عزل «إسرائيل» عن المشهد السياسي الدولي، وجلى صورتها كدولة عنصرية جميع المنظمات الدولية تدينها وتضعها في المكان الذي تستحق. إنه المأزق الإسرائيلي الذي لا يبدو منه مخرج. فماذا عن مأزق فلسطين؟ مأزقها لايزال بالنسبة إلى مأزق «إسرائيل» أكثر رحابة، لكنه يستحق الرثاء. يقينا أن إقامة الجدار العازل عقّدت إلى حد كبير مبادرات فصائلها المسلحة تجاه «إسرائيل»، وأن فعالياتها فقدت قياداتها التاريخية باغتيالات «إسرائيل» الممنهجة، لكن نَفَسَها وإن ضعف - ربما مؤقتا - فإنه لم يتوقف، بيد أنها تعاني من الفرقة والاختلاف. وأصبح الاختلاف مخيفا بعد أن أخذت كتائب الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح التي يرأسها الرئيس عرفات) تتمرد على السلطة الفلسطينية وتحرق في جنين بعد غزة مقار السلطة وتريد إملاء شروطها على النظام. ويبدو أن الفصائل المسلحة لم تحسم خيارها أهي حركة سياسية تطمح إلى السلطة أم هي تجمع مقاومة لا ترجو من وراء عملها جزاء ولا شكورا ولا حكما ولا منصبا؟ هل هي لاتزال مقتنعة بأن الطريق السالك إلى التحرير هو المقاومة المسلحة؟ أم أنها تريد أن يكون لها دور سياسي في حل مشكلة الصراع وحضور مكثف في مؤسسات فلسطين الغد. مثل هذا السؤال يجب أن تطرحه «إسرائيل» على نفسها: ألاتزال المؤسسة العسكرية الحاكمة تؤمن بأنها قادرة على كسب حرب إبادة فلسطين على رغم المأزق الذي وصلته، والعزلة الخانقة المضروبة عليها، وما تحملته من خسارات، وما قد يحمله الغد إليها من مفاجآت قد تهددها في وجودها. وإذا كان الجواب لا، فعليها أن تضع حدا لعسكرة النظام، وأن تتحول إلى دولة ديمقراطية محكومة بشعبها لا بجيشها. أعتقد أن طرفي حرب «إسرائيل» وفلسطين في حاجة ماسة إلى وقفة تأمل واستخلاص للعبر، ينصرفان خلالها إلى إعداد جرد دقيق للحصيلة (سلبا وإيجابا) التي توافرت لهما بعد تجربة هذه الحرب الضروس. وهذا ما أُطلق عليه كلمة «التقييم»، لينتقلا إثر ذلك إلى مرحلة التقويم، أي تقويم الاعوجاج، أو مبادرة إصلاح ما فسد، علما بأن عليهما أن يدركا أن لا خيار للخروج من المأزق إلا باعتماد خيار السلام الشامل العادل الذي لا يضيع فيه الحق الفلسطيني، وعلما كذلك بأن التاريخ لم يسجل لدولة مهما عظمت قوتها أن انتصرت على شعب، وأن لا شعب قد انتصر ودحر وهزم قوة عسكرية من دون تنويع أساليب الكفاح، والتعامل مع كل مرحلة من مراحل التحرير بمقتضى إكراهاتها. وكما كان يقول علي ابن أبي طالب في حكمته: «إذا خِفتَ من شيء فقعْ فيه، فإن وقوعك فيه أهون من توقِّيه»
العدد 708 - الجمعة 13 أغسطس 2004م الموافق 26 جمادى الآخرة 1425هـ