ما يحصل في مدينة النجف كارثة حقيقية للعراق سواء على مستوى النتائج الميدانية للمعركة التي يقودها الاحتلال أو على مستوى مردودها السياسي - الاخلاقي. فالكارثة تطاول مختلف الابعاد القريبة والبعيدة. فالسياسة في النهاية لغة ومن يراقب اللغة يعرف أسلوب تفكير السلطة المعينة والمتعاملة مع الاحتلال ويفهم إلى حد كبير تلك التصورات التي وضعتها أمامها للتنفيذ في المستقبل.
اللغة المتداولة في السلطة المتعاملة أو تلك الصادرة عن الاحتلال هي لغة «صدامية» بامتياز. فالصدامية في النهاية لغة تعكس توجهات سياسية بنيت على معطيات نهضت على فكرة تركيز القوة في «نخبة مختارة» وتلك النخبة بدورها تخضع لسلطة الفرد. وهذا ما نراه يتجسد الآن في العراق مع فارق وحيد هو أن الاحتلال في «النموذج الجديد» يقود رأس السلطة ويديره بالاتجاهات التي يريدها. و«الصدامية» تأسست على مجموعة نقاط رسمت استراتيجية قلبت الأولويات العربية في ثمانينات القرن الماضي. فالنقطة الأولى وضعت إيران على رأس قائمة الاعداء. فإيران وليست «إسرائيل» هي العدو الأول للعراق وبناء عليه خاض صدام حربه الخاصة التي امتدت قرابة ثماني سنوات.
النقطة الثانية في قائمة صدام كانت المعارضة. فكل من يعارضه ليس عراقياً وليس عربياً وبالتالي يجب معاقبته حتى لو لم ينشط ميدانياً ويجب طرده من البلاد لأنه ينتمي إلى جنسية وعرقية مشكوك في صفاء دمها ونوعها ولونها. فالعدو الثاني إذاً كان الشعب العراقي بكل مراكزه ومواقعه ومداخله ومخارجه. وبناء على هذه النظرية الصافية في «قوميتها» خاضت الصدامية معاركها الأهلية حتى تم اخضاع المجتمع للدولة عن طريق القوة العسكرية والإرهاب الدموي.
النقطة الثالثة في لغة صدام كانت دول الجوار. فالدول المجاورة بحسب السياسة الصدامية هي خصم السلطة وهي تتحمل مسئولية ما يجري في العراق. وبناء على هذه النزعة الانعزالية (الانغلاقية) اعتمدت النخبة سياسة التوتير الدائم حتى تضمن تحصين «الدولة» من خلال إشعال العداوات الخارجية (الحدودية)، والتصرف بثروة البلاد من دون حسيب أو رقيب.
«الصدامية» إذاً ليست فرداً، وإنما هي لغة تعكس سياسة وترسم حدود استراتيجية تعتمد تكتيكات تفجير التعارضات مع دول الجوار، وتلجأ إلى القوة لحسم الخلافات مع المعارضة. وحسم الخلافات في لغة صدام تساوي الاقتلاع والاجتثاث ولا تقبل بالتسوية والمساومة ولا توافق على أسلوب الاحتواء. فالاحتواء لغة معقدة وتتطلب درجة من التفكير السياسي المركب، وهذا يعتبر في علم الدولة أعلى بكثير من المستوى الذي يدركه عقل متوحش وموغل في الدموية وساذج في رؤية تعرجات الواقع وتداخل مشكلاته. فالصدامية في النهاية تعني «عضلات» وقوة العضلات عندما تستبد بالسلطة وتنفرد بالقرار تلغي العقل وتستغني عن سياسة الاحتواء.
نحن الآن في النجف (وقبلها الفلوجة) نواجه عقلية صدامية. والصدامية الجديدة تختلف عن القديمة في مسألة الأدوات فقط. فالقديمة استخدمت «الداخل» لكسر كل المخالفين والمعارضين. والجديدة تستخدم «الخارج» لسحق كل من يتعارض في الرأي أو السياسة مع «نخبة مختارة» تبحث عن مستبد (طاغية) ليقودها من جديد في إطار التوجهات السابقة.
العراق الآن يمر في مرحلة صدامية من دون صدام. والاحتلال كما يبدو يبحث من خلال إمساكه بسلطة القرار عن طاغية يتحمل مسئولية ما يحدث وعنده الاستعداد لخدمته بشرط تنصيبه في موقع الدولة الأول. فالاكفأ في هذا المعنى هو من يبدي استعداده أكثر للتوغل في عمق العراق وتكسير كل من يعارض المستبد أو يعترض على الاحتلال. والتوغل السياسي يعني ميدانياً الايغال في الدم والبطش والتدمير والتفكيك بذريعة مخالفة إرادة «النخبة المختارة».
إنها صدامية جديدة تبحث عن طاغية عنده الاستعداد المطلق لتنفيذ أوامر الاحتلال من دون اعتراض أو مناقشة. ومن يظهر أمام الأميركي أنه الاكفأ في هذا المضمار سيكون رجل المرحلة الذي سيقود «النخبة المختارة» نحو هاوية لا تختلف عن تلك التي شهدتها المنطقة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.
الصدامية لغة. فصدام خسر الحرب بينما لغته انتصرت في السياسة. وما يحصل في النجف هو الشاهد على كارثة يخطط لها أن تكون سياسة العراق في نموذجه أو «طبعته الجديدة»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 708 - الجمعة 13 أغسطس 2004م الموافق 26 جمادى الآخرة 1425هـ