من جديد برز دور الشيعة في العراق على السطح، إثر المواجهات الدامية التي تعصف بمدينة النجف الأشرف ومدينة الصدر وغيرهما من مدن الجنوب العراقي الذي تقطنها غالبية شيعية. والاشتباكات تقع بين قوات الاحتلال الأميركية من جهة وجيش المهدي من جهة أخرى، وهذا الجيش أسسه السيدمقتدى الصدر قبل أشهر لحماية مراقد الأئمة والحوزة العلمية والمراجع الدينية، على حد قوله.
وعلى رغم حداثة جيش المهدي وتجهيزاته المتواضعة بالمقارنة مع ما لدى الاحتلال فإنه تمكن من تغيير المعادلة السياسية والأمنية، وجعل القوات الأميركية ومن خلفها البيت الأبيض والرئاسة العراقية تحسب ألف حساب لمقتدى الصدر وأنصاره، فهؤلاء يرفعون السلاح بوجه الجيش الأميركي الذي ينتهك الهدنة الموقعة بين الجانبين ويسهب في استخدام العنف والقوة للقضاء على الإرهاب بحسب الوصف الأميركي، الأمر الذي يدفع بعض العراقيين إلى مقاومة الاحتلال. وكل هذا إنما يزيد من اضطراب الوضع الأمني غير المستقر في العراق.
ولا يبدو رئيس الوزراء إياد علاوي قادرا على احتواء هذا الوضع المتأزم في النجف لا بالتهديد والترهيب ولا بالتفاوض والترغيب، فبعد أن دار الحديث عن رفض التفاوض مع الصدر ومطالبته مغادرة النجف مع جيشه، نراه يتحدث عن العفو عمن يصنفهم ضمن المجرمين، ويدعو الصدر للدخول في العملية السياسية. وكل هذا غير كافٍ، حتى لو انتهت الأزمة الراهنة، ذلك أن أزمات سابقة انتهت بهدنة وتهدئة أيضا لكنها لم تحل المشكلة الرئيسية، ما أدى إلى تجدد الاشتباكات ثانية وثالثة. ولن ينقضي هذا المسلسل الدموي إلا عقب خروج القوات المحتلة وتسليم السلطة للعراقيين، وهو ما قد يحدث في المستقبل غير القريب.
وتتحمل القوات الأميركية مسئولية كبرى في هذه الفوضى والمجابهات، فهي لا تبذل جهودا كافية لإنهاء حال التوتر في البلاد. أما السيدمقتدى الصدر، فيعتقد البعض أنه يبحث عن دورٍ تكفله له شعبيته الواسعة التي حظي بها بعد مقتل والده الشهيد السيدصادق الصدر على أيدي النظام السابق، ومن حق الصدر الابن البحث عن دور أو الحصول عليه، إذ يمثل قطاعا من الشعب العراقي لا يستهان به.
لكن السيد مقتدى ليس هو اللاعب الوحيد من الجانب الشيعي، فهناك من الشيعة من يتعاون مع قوات الاحتلال ويشارك في الحكومة العراقية، كالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وكذلك حزب الدعوة الذي أسسه السيد محمد باقر الصدر، ويمثله نائب الرئيس العراقي إبراهيم الجعفري. ويوجد تيار يبدو أنه في موقف وسطي مسالم وهادئ ومؤثر في آنٍ معاً يمثله آية الله العظمى السيد علي السيستاني الذي يتهمه مناوئوه بالتهاون مع الاحتلال الأميركي، وهذا ليس صحيحاً تماما، لأن السيد السيستاني استضاف الصدر في منزله وأعلن موقفه الداعم له، كما انه لم يرحب بالاحتلال أو بالحكومة العراقية المؤقتة إلا إذا نفذت التزاماتها. ويتمتع السيستاني بمرتبة رفيعة في أوساط الشعب العراقي، وكثيرا ما تؤخذ مواقفه وملاحظاته بعين الاعتبار، وكلمته مسموعة في الداخل العراقي، ومكانته يشهد بها العدو قبل الصديق، وقد وصل بول بريمر إلى القول في إحدى مؤتمراته الصحافية بواشنطن: «إن السيستاني هو أكثر شخص أحترمه في العراق». وقبل أيام غادر السيد من النجف لأول مرة منذ ست سنوات إلى لندن للعلاج، إلا أن هناك من يشكك في توقيت خروجه والأسباب الحقيقية التي دفعته إلى ذلك. ومن المعروف للجميع أن السيد السيستاني يعاني من آلام ومشكلات في صحته وهو شيخ كبير، أما الأسباب السياسية والمواجهات التي تحدث في تلك الأثناء فلا نعتقد أنها الأسباب الرئيسية لمغادرة المرجع السيستاني منزله ومدينته، لأنه ليس من عادته الهروب من الأوضاع السياسية، على رغم أنه لا يحبذ الدخول في السياسة أو الظهور في وسائل الإعلام، وقد بقى في النجف طوال السنين الماضية محاصرا في منزله - حسبما يفيد معارضون سابقون - خلال عهد القمع السابق، وظل كذلك أيضا في ظروف حالكة مرّت بها النجف وغيرها من المدن، وما يحدث اليوم ليس جديداً وإنما هو مشهد متكرر، وغيابه قد يلقي بظلال ثقيلة على إمكان التهدئة في مناطق التوتر.
ومن دأب الإعلام العربي والعالمي، الحديث عن الشيعة في العراق أو في أية ناحية من أنحاء العالم يستلزم الحديث عن إيران التي يتهمها جزء من العراقيين بالتحكم في قادة الشيعة، فيُقال إنها تقف وراء عدم إصدار فتوى بالجهاد من السيد السيستاني والمرجعيات الأخرى، ويتهمها آخرون بتسيير المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، لكن من ناحية أخرى هناك من يشير إلى وقوف إيران وراء تحركات مقتدى الصدر وتثير بذلك الفوضى في العراق. وفي رأينا، ان الاتهامات الموجهة إلى إيران متناقضة لو تمعنا في فحواها، فهي متهمةٌ بالتعاون مع الولايات المتحدة وفي الوقت نفسه تشجع الصدر وجيشه على مقاومتها! فأي الآراء أو الاتهامات أصوب؟ من حق إيران كما هو من حق كل دول العالم أن تبحث عن مصالحها وتدافع عنها على ألا يكون ذلك على حساب الآخرين.
وعندما يعتقد بعض مؤيدي الاحتلال بمسئوليتها عن أعمال مقتدى الصدر، فإن السؤال الذي يطرح لهؤلاء هو: إلى متى سيبقى العراقيون في موضع المتفرج إزاء ما يحدث في بلادهم؟ وإلى متى سيرضون بإدارة الاحتلال وتصرفاتها الحمقاء؟ لابد للعراقيين أن يرفضوا ذلك يوما برمتهم وهم يرفضونه اليوم، لكن أساليب التعبير عن ذلك تختلف من فئة إلى أخرى، فمنهم الإسلاميون المعتدلون والمتشددون ومنهم العلمانيون المسالمون، ومنهم من لا علاقة له بالسياسة ويريد أن يعيش ويحصل على الرزق أولا، ومنهم... ومنهم.
إن حركة الصدر والعمليات في الفلوجة سابقا وفي غيرها حاليا لم تأت من فراغ، فهناك أسباب أدت بالوضع إلى الانفجار، ودفعت عدداً من الناقمين على السياسة الأميركية وسوء الإدارة في أرض الرافدين إلى رفع السلاح بوجه الجيش الذي دخل البلاد وكان عاجزا وغير مستعد لما يمكن أن تكون عليه الأوضاع في بلد مضطرب وخارج من عهد للرعب والخوف لم يعرف خلاله المعنى الحقيقي للحياة المدنية
العدد 707 - الخميس 12 أغسطس 2004م الموافق 25 جمادى الآخرة 1425هـ