قد يكون النزاع الذي نشب أخيرا بين باريس وتل أبيب بسبب تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون ولد انطباعا عند الكثيرين في العالم العربي وخصوصا أنه حصل شرخ حاد على العلاقات بين فرنسا و«إسرائيل». وأوضحت فرنسا عبر التصريحات الرسمية التي صدرت عن حكومتها أن الخلاف الذي نشأ، هو في الحقيقة مع شارون نفسه وليس مع حكومة «إسرائيل» وأنها متمسكة بالعلاقات التقليدية القائمة مع الدولة العبرية.
وكان شارون اتهم فرنسا بالتغاضي عما تقول «إسرائيل» وأن الجرائم المعادية لليهود في فرنسا قد بلغت حد دفعه إلى مطالبة اليهود الفرنسيين حزم حقائبهم والسفر إلى «إسرائيل». وهكذا استجابت بضع عائلات يهودية فرنسية متشددة لدعوة شارون فيما الغالبية لم تذعن له.
فـ «إسرائيل» اليوم التي تعتبر نفسها ملجأ لجميع يهود العالم، لا يسودها الأمن الذي وعد به شارون حين تسلم السلطة. كما أنه ليس هناك ما يغري فيها يهود العالم الذين يفضلون الهجرة إلى الولايات المتحدة وأستراليا وكندا على السفر إلى بلد يسوده توتر أمني دائم بسبب استمراره في ممارسة سياسة الاحتلال واضطهاد الشعب الفلسطيني. عوضا عن التردي الاقتصادي الذي يواجه «إسرائيل» بفعل الانتفاضة الفلسطينية أيضا إذ 30 في المئة من أطفال «إسرائيل» يعيشون في فقر مدقع كما تبلغ نسبة البطالة 11 في المئة.
تتهم «إسرائيل» فرنسا بأنها تعمل بسياسة متحيزة للعرب وهذه التهمة ليست موجهة فقط إلى فرنسا بل تعتمدها «إسرائيل» ضد سائر دول الاتحاد الأوروبي كلما سعت الأخيرة إلى مساندة قرار مناهض لسياساتها التعسفية ضد الشعب الفلسطيني. في السنوات الأخيرة بلغت العلاقات العربية الفرنسية أفضل مستوى لها في ظل الرئيس الحالي جاك شيراك. موقف شيراك الرافض لحرب العراق والمؤيد للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ومطالبته بحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة عزز شعبية شيراك في العالم العربي وهذه الشعبية لم يحصل عليها رئيس فرنسي سابق من قبل.
في ضوء النظرة الإسرائيلية المريبة لأوروبا كلما حاولت الأخيرة مساندة قرار عربي في مجلس الأمن الدولي يندد بسياسات «إسرائيل» فإن الأخيرة تقول إنها لا تعرف حليفا لها غير الولايات المتحدة الأميركية. يتفق المراقبون بالرأي أنه إذا انهارت حكومة شارون فإن الخلاف بين باريس وتل أبيب سيصبح في حكم الماضي اللهم إذا تسلم بنيامين نتنياهو الحكم وتبنى موقف البلدوزر وهذا غير مستبعد أبدا.
لا يجب غض النظر عن حقائق سطرها التاريخ وهي أن فرنسا لعبت دور القوة الحامية لـ «إسرائيل» في وقت كانت الولايات المتحدة تلعب دورا وراء الكواليس. بعد إنشاء الدولة العبرية على أرض فلسطين العام 1948 كانت فرنسا أهم حليف لـ «إسرائيل». وقامت بمدها بالسلاح والمعلومات عن قدرات الجيوش العربية وتدين «إسرائيل» بالشكر لفرنسا التي قدمت لها مساعدات كبيرة لبناء برنامجها النووي وهي اليوم القوة النووية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط ولا تسمح لأية دولة أخرى في المنطقة أن تحصل على برنامج نووي.
في العدد الصادر حديثا لمجلة «لو ديبات» التي يصدرها الناشر اليهودي الفرنسي بيار نورا وتعنى بالعلاقات الفرنسية الإسرائيلية، يجري الحديث في عدد من التقارير عن تاريخ هذه العلاقات وبصورة دعوة موجهة للمسئولين في الحكومتين الفرنسية والإسرائيلية لرأب الصدع. ويستفاد مما هو منشور أن الرئيس الأميركي السابق أيزنهاور هو الذي طلب من الدولة الإسرائيلية في العام 1957 أن تسحب قواتها من جبال سيناء بعد أن احتلوها في إطار العدوان الثلاثي الفرنسي البريطاني الإسرائيلي العام 1956. وكان هذا المطلب الذي تأخرت «إسرائيل» كثيرا في تنفيذه، سببا في عدم قيام رئيس أميركي بزيارة رسمية لـ «إسرائيل» حتى فعلها ريتشارد نيكسون وكرم الإسرائيليين بزيارة رسمية.
حرب الأيام الستة العام 1967 كانت كما كتب بيار نورا يقول عبارة عن طلاق بين فرنسا و«إسرائيل». انه تحول حصل في موقف أوروبا بصورة شاملة بعد أن احتلت «إسرائيل» أراضي عربية وخصوصاً مدينة القدس بكاملها. في المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول بتاريخ 27 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام المذكور بقصر الأليزيه حذر «إسرائيل» من المبالغة باستعراض قوتها العسكرية، وذلك بعد أن وصف الشعب الإسرائيلي بأنه شعب «عسكري» فئاته متضامنة.
نتج عن تصريحات الجنرال ديغول موجة انتقاد واسعة في «إسرائيل» ووصف المراقبون أن هذه التصريحات تؤكد أن قطار العلاقات الفرنسية الإسرائيلية خرج عن سكته المعهودة. لكن بيار نورا واثق أن ديغول اختار كلماته جيدا في ذلك اليوم. كان لدى ديغول رغبة في أن يعبر لـ «إسرائيل» عن خيبة أمله لأنها لم تسمع لنصائحه وخصوصا أنه أدرك الخطر الذي جلبته «إسرائيل» على نفسها نتيجة احتلال أراضٍ عربية جديدة وأنها بذلك تحولت إلى قوة استعمارية جديدة في المنطقة.
حرب الأيام الستة ونتائجها السلبية على منطقة الشرق الأوسط برمتها، والتي لم تكن لتتم لولا الدعم الذي وفره الغرب للدولة العبرية حال دون أن تتطور العلاقات بين فرنسا و«إسرائيل» منذ ذلك الوقت. ويقول بيار نورا إنهما يعيشان في حال طلاق. وأسفرت التحولات والتطورات الاجتماعية في البلدين وخصوصا في فرنسا إلى تعميق الهوة بينهما.
في فرنسا أدت الهجرة الواسعة وخصوصا من دول استعمرتها فرنسا سابقا بشمال إفريقيا إلى زيادة عدد المهاجرين من أصل عربي مقارنة مع اليهود الفرنسيين. لكن ممارسات «إسرائيل» وظهور التيار اليساري الفرنسي ساهمت في حدوث تحول في موقف الرأي العام ليس داخل فرنسا فحسب. وهكذا تحول التعاطف عن الدولة اليهودية التي اجتذبت مئات الآلاف من الشباب الأوروبي للعمل في الكيبوتزات خلال عطلات الصيف وحل مكانه تعاطف مع الشعب الفلسطيني وهكذا نزعت «إسرائيل» عن نفسها ثوب الضحية واستبدلته بثوب الجلاد. في المقابل أصبحت «إسرائيل» تتحول إلى بلد فيه النفوذ للجماعات والأحزاب الدينية المتشددة حيث نفوذ الدينيين المتشددين في «إسرائيل» متفش داخل المجتمع وخصوصاً الجيش وهذا ليس سرا.
الخلاف بين شارون وفرنسا واتهام «إسرائيل» الاتحاد الأوروبي بالتحيز للجانب العربي ينبغي ألا يكون حائلا دون مسعى الأوروبيين إلى القيام بدور فعال لحل النزاعات في الشرق الأوسط والتي زادت بعد حرب العراق. كما ينبغي ألا ينظر العرب نظرة عاطفية إلى أي خلاف بين بلد غربي و«إسرائيل»، ففي النهاية تحتاج «إسرائيل» - التي لا تتوانى في أن تبصق على الأيدي التي مدت لها - الى العون كما تستطيع الدول الغربية العيش في ظل سياسات المعيار المزدوج التي تتبناها وخصوصاً تجاه النزاعين في فلسطين والعراق
العدد 707 - الخميس 12 أغسطس 2004م الموافق 25 جمادى الآخرة 1425هـ