العدد 706 - الأربعاء 11 أغسطس 2004م الموافق 24 جمادى الآخرة 1425هـ

من قال إن عصر الامبراطوريات انتهى؟

مؤرخو «آخر الزمان»!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في الأثر الشريف: «يأتي على أمتي زمانٌ القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر»، أما في هذا الزمان المنفرج الساقين، القابض على عقله كالقابض على الجمر!

من المفهوم ابتداءً أن يدافع سفير دولة أجنبية عن سياسات بلاده ويلتمس لأخطائها المعاذير والتبريرات، ولكن ليس من المعقول أن يتصدى «مؤرّخ وطني» للدفاع عن سياسات دولة أجنبية قبل أكثر من قرن، بعد أن أصبحت في ذمة التاريخ، ويخرجها كالشعرة من العجين!

من حق السفير أن يتحدث بما يريد، وكلنا آذان صاغية للجديد والعجيب، ولكن ليس إلى درجة قلب الليل إلى نهار.

وإذا كان للمؤرّخ الوطني قصةٌ بطولية واحدة يرويها عن جدّه الذي خدع البريطانيين بتشييد البناء الفاسد مقابل آلاف الروبيات، فإن لدينا قصصاً بالمئات عن آبائنا في المنامة والمحرق والنويدرات والحورة وسترة، الذين لم يكونوا يتعاملون مع البريطانيين بالدنانير، أو بالأحرى لم يكن البريطانيون يتعاملون معهم بالدنانير وإنما بمسيلات الدموع والرصاص الذي أودى بحياة العشرات، يوم كان جيش «بريطانيا العظمى» موجوداً في البحرين!

وإذا كان الحديث يتطلب مزيداً من التوثيق، فإننا نحيل هذا «المؤرخ» إلى الكتابات الكثيرة التي أرّخت لفترة الخمسينات وقصة تأميم قناة السويس، هيكل مثلاً، وكيف استقبل شعب الابحرين وزير خارجية «بريطانيا العظمى» انطوني آيدن بالطماطم والبيض الفاسد على جسر المحرق، احتجاجاً على العدوان الثلاثي على مصر.

آباؤنا عاشوا وهم يتظاهرون ضد الإنجليز وسياستهم «شرق المتوسطية» طوال عقدي الخمسينات والستينات، حتى تسمّمت رئاتهم بالغاز المسيل للدموع، وأصابتهم جراحات الرصاص. المحرق كما المنامة كانتا في المقدمة، وكانت المظاهرات تخرج من مسجد مؤمن بالمنامة ومن مسجد مجرن بالمحرق، وكانت الشعارات: «يا منامي يا قلالي». وكما يروي ابن «أم الحصم» عبدالله مطيويع أنه عندما قال رئيس قسم الـ «سي آي دي» الضابط البريطاني بوب: «إن البحرين ليس بها رجال»، بعد أن قتل الشهداء في الشوارع وعذب الأحرار في السجون وروّع الأطفال والنساء، قام مجيد مرهون بتشريك قنبلة في فرامل سيارته فأصابه بالشلل، وحُكم جرّاء ذلك بالمؤبد، ولم يخرج إلاّ في التسعينات.

إذا جلست مع أبيك الذي لم يبنِ حائطاً للبريطانيين، سيخبرك عن تلك الايام، التي كانت الشعارات «الوطنية» تكتب على الجدران مطالبةً برحيل «الاستعمار» الحضاري الجميل! وكان الأب يجلس تحت منبر المسجد، ويعود إلى قريته على دراجة هوائية محمّلاً بالأخبار «الطازجة» إلى الجيران. هذه القصص حان الوقت الآن لإلغائها من ذاكرتكم الجماعية يا شعب البحرين!

برنارد شو و«وزارة المحميات»!

طبعاً المسألة لا تتعلق ببريطانيا التي لم تعد عظمى ولا هم يحزنون، إنما تتعلق بالسيد الجديد. الامبراطورية البريطانية نفسها أصبحت شعرة في ذيل الثور الأميركي الهائج ليس أكثر، لكن المطلوب تمرير سياسات الثيران، وتحويل هذه الشعوب إلى أبقار تصدّق الأباطيل، وعملية التحويل تبدأ بتنزيل النظريات «الأفلاطونية» الجديدة.

لا تصدّقوا أن هذه النظريات جاءت عفو الخاطر، أو نزلت وحياً من السماء على أصحابها الملهَمين، أو على ضوء اكتشاف معلومات خطيرة لم تكن معروفة من قبل، وهي أن «دخول البريطانيين البحرين تم على ضوء اتفاق رسمي». فنحن ندرك أن أوروبا المتحضرة في مطلع القرن العشرين، لم تعد أوروبا القرن التاسع أو الثامن عشر. أوروبا بعد خبرة قرنين من الغزو المسلح والسرقات المباشرة أصبحت أكثر «إنسانية»، فأخذت توقّع مع المشيخات والممالك الصغيرة اتفاقات «رسمية»، تسمح لها بـ «الحماية»! مجرد «حماية» بريئة من الأغراض الدنيوية. وإذا كانت كبرى الدول العربية اليوم لا تملك قرارها السياسي أمام الإملاءات الأميركية، فهل لنا أن نطالب تلك المشيخات الصغيرة بأن تقول «لا» لحماية الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس؟

بريطانيا نفسها كانت أصدق من أصحاب هذه البدع والنظريات الباطلة، إذ كانت تدير «محمياتها» من وزارةٍ خاصةٍ لم تخجل من تسميتها بـ «وزارة المستعمرات»، وكان الكاتب الشهير برنارد شو يعمل موظفاً فيها، لكن «المؤرخين الجدد» أكثر ملكية من الملكيين أنفسهم، فلا تستبعدوا أن يخرجوا عليكم غداً بنظرية بديعة أخرى تقول: «إنما كان برناردشو يعمل في وزارة المحميّات»!

لا عليكم من هذا الصخب المشبوه، إنما يراد لكم أن تصدّقوا أن «الأمر الواقع» الجديد الذي يجري تأسيسه في العراق اليوم، وفق مخطط وولفوويتز ورامسفيلد وديك تشيني، لن يكون أكثر من «محمية أميركية»، مادام هناك اتفاقٌ بين علاوي والأميركان. فبريطانيا انتهت بلاشك، وعصر مستعمراتها (التي ينبغي تسميتها بالمحميات بعد الآن)، ولّى إلى غير رجعة، ولكن ينبغي التأسيس لعصر امبراطورية العم الشقيّ سام! وهذا هو المقصود، فـ «دعونا من هذه العواطف السياسية البلهاء»! قبل ألف عامٍ بالضبط وقف المتنبي يعلّق على أحوال مصر في ذلك العصر المنفرج الساقين، مرحلة سيادة العبيد، فأطلق ذلك البيت السائر الدائر:

وكم لي بمصر من المضحكات ... ولكنها ضحكٌ كالبكا

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 706 - الأربعاء 11 أغسطس 2004م الموافق 24 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً