ما يعنيني في نتائج الانتخابات المحليّة العراقية التي جرت مُؤخرا هو انحسار رغبة المُنْتَخِبِيْن لمشروع فدرلة العراق.
المُؤشّر في ذلك كان في تراجع قائمة «شهيد المحراب» بزعامة السيد عبدالعزيز الحكيم - عافاه الله - الذي يُعتبر أهم الداعمين لإقامة إقليم الوسط والجنوب بتسعِ محافظات.
قد يكون ذلك التراجع ارتدادا لعامل مُركّب جَمَعَ قُدرةَ مُتغيّر الأمن في تظهير المالكي كرجل مرحلة، ووجود رؤساء المحافظات (السابقين) في واقع ميداني أوّلي مُتحلّل في بُنَاه التحتيّة، الأمر الذي أفقدهم ما يكفي من المصداقية لكي يُهزموا. لكن الأمر جرى بما انتهت إليه النتائج.
في مآلات الانتخابات حديث مُتشعّب. فمنذ سقوط نظام صدام حسين في 9 أبريل/ نيسان 2003 مَاجَتْ أنوية العراق السياسية والمذهبية والعشائرية بما يشبه «قتال الكُلّ للكل». فتعدّدت الجبهات، وأصبح ناجزها ارتجاعا على شخوص جُدد.
جاءت الأحزاب التي ناوأت البعث بقوائم «التصفية» انتقاما منها لحقبة سوداء. وجاءت القاعدة بمشروعها الطائفي لقتال «حلفاء اليهود» من الشيعة. وفي حركة مُقابِلَة، انتفضت «شعوب الداخل العراقي» دواليك.
فنهض شعب «العشائر الغربية» مُدافعا عن حسّه العشائري الذي بات مُنتَهَكا أمام جردة حساب التصفية ضد أبنائه من ضبّاط الجيش السابق. ونهض شعب «العشائر الجنوبية» مُدافعا عن إرثٍ تمازج بالدّين الصّدري ضد تُجّار السياسة الجُدُد من المجلسيين والدعوتيين.
وخلف احترابات تلك الشعوب كانت تقف معركة البلد الأصليّة. احتلال = مُقاومة. وباتت الساحة مطواعة لاستبدال المعركة من العشائر إلى التمذهب وصولا إلى الرّغبة في تحويلها (أو جزء منها) صوب المُحتل طورا أو صوب بُؤساء المجتمع طورا آخر.
بعد اكتمال المشهد، لم تعُد الحاجة سوى إلى خريطة جغرافية ملائمة. تسع محافظات بغالبية شيعية. وثلاث محافظات كُرديّة معها كركوك ومناطق مستقطعة كـ سنجار وسهل نينوى وطوزخرماتو وغرب كردستان وخانقين ومندلي. ومحافظتان بغالبية سُنّية تضمان الأنبار والموصل، وجزء من صلاح الدين وديالى.
هذه الخريطة الجغرافية كانت ملائمة تماما لأخرى سياسية تعتمل. فظهر ائتلاف شيعي وآخر سُنّي، وثالث كُردي. وفي داخل تلك الائتلافات استمرت تصفية الحسابات التاريخية بين (الإخوة) وتقوية نظام المصالح غير المُمتدة.
في جردة هذا التقابل بدت الكُلفة عالية جدا. فليس الشيعة كُلّهم في المحافظات التسع. فعشرون في المئة منهم مُوزّعون في العاصمة (بغداد) ومحافظات صلاح الدين وديالى والموصل وكركوك.
ولا السُنّة كلهم في محافظات الأنبار والموصل وصلاح الدين وديالى. فجزءٌ منهم يهجع في الكُوت والبصرة وبابل.
ولا الأكراد كُلّهم في محافظاتهم التاريخية. فجزء كبير في بغداد وديالى والموصل وصلاح الدين.
ضمن هذا التوزيع الديمغرافي غدا الضرب في دماء العِرق والمذهب بلا حساب. فالشّيعي منالٌ قتله خارج محافظاته مادام موجودا في بغداد وديالى. وقتل السُنّي أسهل مادام موجودا في البصرة والكوت وقرب كربلاء جهة الصحراء.
في هذه المعارك السوداء والمتعددة بات المجتمع العراقي مدهوشا لما جرى ويجري له ولتجاوره منذ زمن سحيق. وقد صاحب ذلك نُدرة في الأمن الشخصي والجماعي، وتهالك على مستوى الخدمات التي بات مُنجزها مرتبطا بالوضع على الأرض.
ولأن المجلس الأعلى الإسلامي بزعامة السيد الحكيم كان مُسيطرا على ثمانين في المئة من وظائف المحافظات الجنوبية في الدورة السابقة؛ فقد أصبح المسئول الأول أمام أيّ إخفاق ميداني خدمي. وهو ما انعكس سلبا على شعبيته بين الجنوبيين.
الآن تطرح نتائج الانتخابات سؤالا محوريا: ما هو مصير المشروع الفيدرالي في العراق في ظل تراجع الأحزاب الدافعة له؟
وفي ظل نتائج الاحتراب داخل الأقاليم (المختلطة) التي بُشِّرَ بتقسيمها على أساس طائفي منذ فبراير/ شباط 2006 وهو تاريخ اندلاع العنف المذهبي بعد تفجير المرقدين العسكريين؟
الإجابة تبدو أنها في نتائج انتخابات المجلس النيابي المقبل.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2374 - الجمعة 06 مارس 2009م الموافق 09 ربيع الاول 1430هـ