المذكرة التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير أقلقت الكثير أو غالبية المهتمين بالشأن السوداني وخبراء القانون الدولي وإن كانت قد أسعدت البعض ممن يجهلون الصراع في إقليم دارفور أو أولئك الذين لديهم مآرب أخرى.
وحتى الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي أصبحت منقسمة على نفسها رغم أن القضية برمتها بدأت بأدلة مفبركة من وزارة الخارجية الأميركية التي أحالت ملف ادعاءات إلى الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي عنان الذي تسلم بدوره تلك المزاعم. ويحتوي الاشتباه في أن 51 مسئولا سودانيا في حكومة البشير مسئولون عن ارتكاب جرائم حرب في دارفور.
لم تتأسس المحكمة الجنائية في لاهاي بناء على رغبة الجمعية العامة للأمم المتحدة، بل جاءت بناء على مشاورات بين بعض الدول تمخض عنها «ميثاق روما» الذي ينص على أن مهمة المحكمة تكميلية بمعنى أن اختصاصها ينعقد فقط لدى الدول الأعضاء وفي حال عجز القضاء الوطني للدولة المعنية في القيام بدوره المنوط به.
ومن سخرية القدر، أن الكبار الذين يدعمون قرار المحكمة بملاحقة البشير هم من أشد المعارضين لاختصاصها ولنظامها التأسيسي.
فالولايات المتحدة التي دبرت المكيدة كما أسلفت، رفضت المحكمة وعارضتها منذ البداية وحتى اليوم، واتخذت احتياطات كثيرة ضد أي ثغرة يمكن أن تنفذ منها صلاحياتها لأمر يخص المواطنين الأميركيين.
وقد وقعت الحكومة الأميركية مستخدمة (العصا والجزرة) معاهدات مع غالبية دول العالم تمنع تلك الدول من تسليم أي مواطن أميركي للمحكمة. وبدورهما رفضت كل من الصين وروسيا هذه المحكمة وامتنعتا عن دعم إجراءاتها.
لقد جاءت مذكرة توقيف البشير لتكون القشة التي ستقصم ظهر لاهاي كعاصمة للعدالة ، وذلك بحدوث انشقاق وتنازع دولي في كيفية تطبيق مبادئ القانون الدولي. فكيف تكون هذه المحكمة واقعة في سلطة مجلس الأمن (مع كونها مرفوضة من الأعضاء الدائمين فيه) وأداة بيد أعضائه، بينما لن تحال إليها أبدا قضايا لا ترضى عنها دول مثل أميركا وبريطانيا وفرنسا... إلخ؟
وعليه فإن المحكمة الجنائية الدولية ستفقد مقوماتها وسلطتها الأخلاقية لأنها ذات شرعية ناقصة، إذا أجرم الضعيف صدرت بحقه مذكرة توقيف، أما إذا أجرم القوي أفلت من العقاب كما حدث في غزة والعراق وأفغانستان وباكستان، حيث قتل آلاف الشيوخ والأطفال في غارات غربية مشتركة عمدا بحجة مكافحة الإرهاب.
عموما وبعد صدور المذكرة المشئومة بحق واحد من أنبل الرؤساء العرب (شارك في حرب تحرير سيناء وطرد شركات النفط الأميركية من بلاده) فإن الكرة الآن في ملعب الغرب، لتفعيل هذه الطبخة وإيجاد الكيفية التي يمكن أن ينفذ بها مذكرته. وهو تحد حقيقي للمجتمع الدولي سواء المعارضين أو المؤيدين للإجراء. فهل سيتوحد المجتمع الدولي داخل مجلس الأمن لتمرير القرارات التنفيذية كفرض عقوبات اقتصادية على السودان للضغط عليه ليسلم رئيسه.
ويبدو أن أسهل الطرق في ظل هذا الوضع العالمي الحالي الذي يئن من وطأة الأزمة المالية والقتال في أفغانستان والعراق ومناطق أخرى هو فرض حظر للسفر على بعض المسئولين في الحكومة السودانية، أو الحجز على حساباتهم إن كانت لديهم حسابات في الخارج، وفي أسوأ الاحتمالات نجاح القوى المعادية للسودان في تمرير قرار بحظر تصدير النفط السوداني أو فرض حظر للطيران الحكومي فوق سماء دارفور مع الأخذ في الاعتبار أن هاتين الخطوتين من الصعوبة بمكان تنفيذهما.
أما على صعيد الجبهة الداخلية السودانية فحتى الآن يمكن وصفها بالمتماسكة؛ لأن المذكرة سيئة الصيت كانت استفزازية بما فيه الكفاية لجعل المعارضين للبشير سياسيا أصدقاء له، فهذه المحنة إذ أعلنوا وقوفهم معه وقالوا إنهم لن يخذلوه ولن يسلموه للأجنبي.
وفي الواقع غالبية الرأي العام العالمي يجهل طبيعة النزاع في دارفور. لقد كان لاندلاع شرارة التمرد المسلح، الذي استلهم قادته المكتسبات التي تحققت سياسيا من حرب جنوب البلاد، ومحاولة الحكومة المركزية إخمادها مبكرا، نصيب الأسد في حدوث مأساة إنسانية لأن المتمردين يحتمون بالأهالي في القرى والبوادي. هذا بالإضافة إلى عوامل الجفاف والتصحر الذي ضرب الإقليم منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي. وقد ارتكبت الحركات المسلحة في دارفور غالبية الجرائم التي يتهم بها البشير الآن.
إن ما قام به البشير من إطلاق ليد الجيش لإخماد التمرد المسلح في دارفور يمكن أن يقوم به مرة أخرى لو أن نزاعا آخر قد نشب في أي بقعة من التراب السوداني المترامي الأطراف، ويمكن أن يفعل ذلك أي رئيس أدى القسم على المحافظة على وحدة البلاد. والذين يقاتلون في صفوف الجيش السوداني «المتهم بارتكاب الفظائع» هم أبناء دارفور أنفسهم.
لقد أحسنت الحكومة السودانية بطردها نحو 13 منظمة دولية عاملة في إقليم دارفور كانت تفبرك التقارير المغلوطة وترسلها إلى دوائر الاستخبارات الغربية. فهذه الخطوة (التي غاظت بشدة العواصم الغربية) تجعل الأهالي يعتمدون على أنفسهم بدلا عن الإغاثة وتشجعهم على العودة إلى قراهم ومزارعهم السابقة بدلا من التكدس لسنوات في معسكرات النازحين في أطراف المدن.
لقد حصحص الحق في قضية دارفور التي اتخذها الغرب حصان طروادة لتقسيم السودان بعد أن ضمن انفصال جنوب السودان المرتقب بعد عامين مقبلين. وكما يقول المثل الشعبي «الحشاش الصياد يملأ شبكتو». فما دامت الدول الغربية تريدها مواجهة حامية فإن السودانيين يريدونها مشتعلة؛ لأنه ببساطة... الدفاع عن النفس واجب وطني وديني.
إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"العدد 2374 - الجمعة 06 مارس 2009م الموافق 09 ربيع الاول 1430هـ