أوضحنا في مقالاتنا السابقة أن المحكمة الدستورية قررت في أولى الدعاوى الدستورية عدة مبادئ جوهرية اتسمت بالتطبيق السليم لأحكام الدستور، وسردنا بعد ذلك وقائع الدعوى الأولى المرفوعة إلى المحكمة، ثم تناولنا بالتحليل المبدأ الأول الذي قررته المحكمة وهو خضوع جميع التشريعات السابقة منها على أول اجتماع للمجلس الوطني واللاحقة عليه للرقابة على الشرعية الدستورية، وتناولنا بعد ذلك المبادئ التي قررتها المحكمة الدستورية في مجال رفضها الدفوع المقدمة من دائرة الشئون القانونية بشأن عدم اختصاص المحكمة ولائيا بنظر الدعوى، وعدم قبولها لاتصال المحكمة بها بغير الطريق القانوني، وعدم توافر المصلحة الشخصية المباشرة للطاعن. ثم أوضحنا جوهر النزاع في الدعوى المتعلقة بمدى مخالفة الفقرة السادسة من المادة السادسة من قانون المحاماة لاحكام الدستور.
ونظرا إلى ضيق المساحة المخصصة لنشر الجزء الثالث من هذه الدراسة فإن القارئ لم يتمكن من متابعته كاملا، ولذلك ارتأينا استكمال الموضوع ببيان المبادئ التي قدّرتها المحكمة بالنسبة إلى سلطة المشرع في تنظيم الحقوق المنصوص عليها في الدستور ثم تحليل هذه المبادئ، إذ قررت المحكمة ما يأتي:
تنظيم حق التقاضي ومبدأ المساواة
وإذ إن مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون المنصوص عليه في المادتين (4) و(18) من الدستور، والذي تردده الدساتير المعاصرة، بحسبانه ركيزة اساسية للحقوق والحريات على اختلافها وأساسا للعدل والسلام الاجتماعي، غايته صون الحقوق والحريات في مواجهة صور التمييز التي تنال منها أو تقيد ممارستها، باعتباره وسيلة لتقرير الحماية المتكافئة التي لا تمييز فيها بين المراكز القانونية المتماثلة، فلا يقتصر مجال أعماله على ما كفله الدستور من حقوق، بل يمتد كذلك إلى تلك التي يقررها القانون، وبمراعاة ان الحماية المتكافئة امام القانون التي اعتد الدستور بها، لا تتناول القانون من مفهوم مجرد، وانما بالنظر إلى ان القانون تعبير عن سياسة محددة أنشأتها أوضاع لها مشكلاتها، وانه تغيا بالنصوص التي تضمنها تحقيق اغراض بذاتها من خلال الوسائل التي حددها، وكلما كان القانون مغايرا بين أوضاع أو مراكز قانونية أو أشخاص لا تتحد واقعا فيما بينها، وكان تقديره في ذلك قائما على أسس موضوعية، مستهدفا غايات لا نزاع في مشروعيتها، وكافلا وحدة القاعدة القانونية في شأن أشخاص تتماثل ظروفهم بما لا يجاوز متطلبات تلك الغايات، كان واقعا في إطار السلطة التقديرية التي يملكها المشرع.
وإذ إن الدستور وان كان قد نص في المادة (20/ و) منه على ان «حق التقاضي مكفول طبقاً للقانون» إلا أنه لم يتطلب ان يكون التقاضي على أكثر من درجة واحدة في جميع انواع المنازعات وانما ترك ذلك للسلطة التقديرية للمشرع وعلى ما يبين من نص المادة (105/ أ) من الدستور التي تنص على أن «يرتب القانون المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها، ويبين وظائفها واختصاصاتها». ومن ثم فليس صحيحا ما ذهب إليه المدعي من وجوب ان يكون التقاضي على أكثر من درجة في جميع المنازعات، ذلك ان المادة (105/ أ) من الدستور أفصحت عن سلطة المشرع التقديرية في هذا الصدد، فيكون القانون هو المنوط به تحديد اختصاص المحاكم وتحديد انواعها وبيان عدد درجات كل نوع منها، ولا ينحل التقاضي على درجة واحدة - في ذاته - خروجا على مبادئ الدستور باعتبار انه يعد تنظيما لحق التقاضي الذي يندرج في إطار السلطة التقديرية للمشرع، مراعاة لطبيعة المنازعات التي تختلف فيما بينها في مداها.
ولا يغير من ذلك قول المدعي ان هذا القانون خالف ما سارت عليه التشريعات الأخرى في مملكة البحرين من جعل التقاضي على أكثر من درجة، فهذا القول - لو صح - لا يعدو ان يكون نعيا بمخالفة النص التشريعي المطعون فيه لاتجاه ساد عملية التشريع ولا يصلح بالتالي لأن يكون في ذاته عيباً دستورياً، ذلك ان المناط في تقدير دستورية النص التشريعي أو عدم دستوريته، هو باتفاقه أو مخالفته لاحكام الدستور المنوط بهذه المحكمة صونها وحمايتها.
لما كان ذلك وكان المشرع قد افرد تنظيماً قضائياً لحسم النزاع الذي يثور بين من يُرفض طلب قيده بجدول المحامين وبين قرار وزير العدل في هذا الصدد، عن مدى توافر الشروط التي يتطلبها قانون المحاماة للقيد بجدول المحامين أو تخلفها محددا وجوب أن يتم التظلم من القرار بالرفض - سواء كان قرار الرفض صريحا أو ضمنيا - أمام محكمة الاستئناف العليا المدنية خلال مدة محددة من تاريخ ابلاغه بالرفض، إذ تقوم محكمة الاستئناف العليا المدنية ببحث عناصر النزاع جميعها الواقعية منها والقانونية، وهي محكمة تؤلف وتصدر احكامها من ثلاثة قضاة على النحو الوارد بنص المادة (9) من قانون السلطة القضائية الصادر بالمرسوم بقانون رقم (42) لسنة 2002، وعهد المشرع إليها بالفصل في عناصر النزاع جميعها الواقعية منها والقانونية، كما تتوافر امامها كل مقومات التقاضي وضماناته الرئيسية ولا تعلوها سوى محكمة التمييز التي تقتصر ولايتها على الفصل في مسائل القانون وحده، وقد عمد المشرع - بتقريره النص الطعين - ان يكون حكم محكمة الاستئناف العليا المدنية في التظلم نهائياً، أي بقصر التقاضي على درجة واحدة، وكان القصد من هذا التنظيم سرعة انهاء المنازعة الدائرة بين طالب القيد في جدول المحامين والقرار الصادر برفض طلب قيده وفق أسس موضوعية وبما لا يخل بالمساواة بين طالبي القيد الذين يندرجون في اطار مركز قانوني واحد، ولاسيما ان النص المطعون فيه توخى مصلحة مشروعة غايتها حفظ الوقت وتجنب اهدار الجهد في بحث التظلم الذي ينطوي على مجرد التحقق من توافر شروط القيد بالجدول العام للمحامين من دون ان يمس حق التقاضي، ومن دون ان ينال من استقلال السلطة القضائية، أو يهدر مبدأي المساواة وتكافؤ الفرص لأشخاص تتماثل ظروفهم هم كل طالب قيد في جدول المحامين رُفض طلبه ويحق له التظلم قانونا من القرار الصادر برفض طلب قيده بجدول المحامين، ومن ثم يكون عمل المشرع قد وقع في إطار السلطة التقديرية التي يملكها، ويكون النعي بعدم دستورية النص الطعين غير سديد.
متى كان ذلك وكان لا دليل من النص الطعين - على النحو المتقدم - على اخلاله بحق التقاضي أو مخالفته لمبدأي المساواة وتكافؤ الفرص أو مخالفته للدستور من أي وجه آخر، فإن الحكم برفض الدعوى يكون متعينا.
المؤشرات والنتائج
ويتبين مما تقدم أن المحكمة الدستورية أكدت أن تنظيم المشرع للحقوق الواردة في الدستور يوجب الا تؤدي القوانين المنظمة لها إلى النيل منها في محتواها ومقاصدها أو تقييدها أو التأثير في مضمونها، كما ربطت بين سلطة المشرع في تنظيم الحقوق وبين مشروعية النصوص التي تتضمنها القوانين المنظمة لهذه الحقوق، بمعنى ان سلطة المشرع في هذا الشأن مقيدة بالا تكون الاغراض التي تتوخاها غير مشروعة أو منفصلة عن أهدافها، ومن ناحية ثالثة قررت المحكمة الدستورية مبدأ جوهريا وأساسيا تمثل في أن مبدأ المساواة باعتباره اساسا من أسس المجتمع التي تكفلها الدولة، وركيزة أساسية للحقوق والحريات على اختلافها، لا يقتصر فقط على حظر التمييز بين المواطنين في الاصول التي اشار إليها الدستور وهي الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، وانما يمتد لكل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التي كفلها الدستور أو التي حددها المشرع.
ويشار في هذا المجال إلى انه غابت عن دائرة الشئون القانونية معرفة المصلحة المشروعة الذي هدف المشرع إلى تحقيقها في تقريره قصر التقاضي في التظلم من رفض القيد بجدول المحامين على درجة واحدة، فبينما تركز دفاع هذه الدائرة على القول إن هذه المصلحة تتمثل في عدم جواز تسليط قضاء أدنى على قضاء أعلى فإن المحكمة الدستورية قامت بتصويب دفاع الدائرة في هذا الشأن مقررة ان النص المطعون بعدم دستوريته قد توخى مصلحة مشروعة غايتها حفظ الوقت وتجنب اهدار الجهد على النحو السابق ايضاحه.
وفي ضوء ما تقدم وفي إطار تصويب المحكمة الدستورية لدفاع دائرة الشئون القانونية وتحديدها للمصلحة المشروعة التي استهدفها النص المطعون بعدم دستوريته، يمكن القول إن المحكمة الدستورية أرست مبدأ جوهرياً مهماً يتعين بمقتضاه على محكمة الاستئناف العليا المدنية التقيد به عند نظر التظلمات من رفض القيد بجدول المحامين، ويتمثل هذا المبدأ في الالتزام عند نظر هذه التظلمات بتحقيق المصلحة المشروعة للنص وهي عدم الاخلال بالمساواة بين طالبي القيد وحفظ الوقت وتجنب اهدار الجهد وبحث التظلم من زاوية واحدة فقط هي التحقق من توافر شروط القيد بجدول المحامين.
لقد استرعى انتباهنا ذلك التصريح المنسوب إلى دائرة الشئون القانونية والمنشور بالصحف اليومية الصادرة صباح الثلثاء 27 ابريل/ نيسان 2004 في اليوم التالي لصدور حكم المحكمة، والتي قالت فيه «ان المحاكم الموضوعية يفترض فيها ان تتفحص الدفوع المقدمة اليها بعدم دستورية أي من القوانين والتأكد من جدية الدفع حتى لا تشغل المحكمة العليا في دعاوى لا جدوى منها وتعطل البت في دعاوى الافراد» وليس هناك من شك في ان هذا التصريح تضمن تجريحا للقضاء في البحرين، إذ يعني اتهام القضاة بعدم التأكد من جدية الدفوع المعروضة عليهم بعدم دستورية النصوص القانونية، وهو أمر غير مقبول. ذلك ان المحاكم الموضوعية حين تبحث في جدية الدفع بعدم الدستورية فإنها لا تتناول مدى احقية مقدم الدفع فيه وانما يقتصر بحثها على اقتناعها بعدم كيدية الدفاع بهدف اطالة أمد النظر في الدعوى أو غير ذلك من الأسباب، ومن هنا فإنه يجب على دائرة الشئون القانونية الاعتذار عن هذا الخطأ الذي نعتقد ان مرتكبه زل فيه لسانه وخانه التعبير فتصور ان من حقه توجيه النصح واللوم لقضاة البحرين
إقرأ أيضا لـ "عزت عبدالنبي"العدد 705 - الثلثاء 10 أغسطس 2004م الموافق 23 جمادى الآخرة 1425هـ