هناك من يسعى إلى المجد وهناك من يسعى المجد إليه. من يسعى إلى المجد قد ينال وطره أو جزءًا منه، ولكن على أشلاء الضحايا غالباً، لأن طلاب المجد كثيرون متنافسون متناطحون. أما من يسعى المجد إليه، فتلك سِيَرُ الكبار، المتواضعين، المترفّعين عن الصغائر ، الذين يحملون همّ الإنسانية على ظهورهم ويقطعون الفيافي حتى ينيخ الركب وتستقر بهم القافلة المنهكة.
عبدالله فخرو من هذا النوع النادر البسيط. لم يأتِ له المجد من باب الثقافة أو الكلمات العراض التي يتفلسف بها المتشدقون وأدعياء الوطنية في أيام الرخاء.
ويجب ألا ننسى أن الرجل من سرّ عظمته أنه لم يكن يعيش لجزيرته، ولا لمنطقة سكناه أو زقاق منزله، وإنما عاش للبحرين الوطن، البحرين الإنسان، البحرين الرافع الرأس. ومن هنا استطال وأصبح عملاقاً مهاباً ومحبوباً في نفوس الجميع.
وإذا كان بعض «الناشطين السياسيين الجدد»، الطارئين على حلبة الساحة والعمل العام، تفتق ذهنه عن اقتراح إنشاء هيئة خاصة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ترصد لها الملايين ويوضع لها الكادر الوظيفي وتعطى لكوادرها العصي لتأديب أصحاب المنكر، فإن فقيد الوطن كان من الآمرين بالمعروف الأكبر: «العدل والمساواة»، ومن الناهين عن المنكر الأكبر: «سرقة المال العام والتلاعب والفساد والارتشاء ومصادرة الحقوق».
هكذا فهم فخرو الفريضة وسار يبشّر بهذه الرسالة السامية، غير هيّاب ولا خوّاف. قام بهذه الوظيفة ولم يتلق عليها أجراً ولم يطالب بـ 750 ديناراً لفتح مكتب، أو 500 دينار علاوة سيارة، ولم يحاول أن ينتزع من خزانة الدولة راتباً تقاعدياً مقتطعاً من لحوم الفقراء والمساكين، تحت حجة «أن 50 دولة في العالم تطبق معاشات التقاعد على نوابها»، بل الذهاب إلى أكثر من ذلك بالقول إنهم لا يسعون إلى نظام تقاعد من أجل أنفسهم، والباقي أن يقال في مسلسل الدفاع عن الأخطاء أن هذا المشروع الفطحل إنما أرادوا سنّه من أجل أجيال المستقبل ليعّم الخير الوفير!
فوق ذلك كلّفه «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» الكثير من المال: دفعها كفالات للخروج من السجن، لأنه فقط طالب بالإصلاح، مرة ألف دينار العام 1991، ومرة 3000 دينار العام التالي، ومرة ثالثة اكتفى «قانون أمن الدولة» بفرض غرامة قدرها 500 دينار، لأنه اعتقل من دون تهمة العام 1994! فهل أصحاب المقترح الجديد مستعدون لممارسة هذه الفريضة الغائبة من دون رواتب؟ بل هل هم مستعدون لدفع الغرامات حين يتطوعون لممارستها؟!
كان فخرو صادقاً مع نفسه ومع غيره، لم يساوم على الحق، ولم يداهن الباطل، ولذلك لم يكن يتحمله المدافعون عن الأخطاء والخطايا، الآكلون من القدور الفخمة بملاعق الذهب، فخرج أحدهم غاضباً مكفهراً من مأتم الجشي بالبلاد القديم بعد أن صدح الفقيد بقول الحق وصارحه بقول الحقيقة.
حضوره الدائم هنا وهناك، ومواقفه الجريئة أيام الصمت وسيادة الرأي الواحد. يوم أُطلق سراح رفيقه في المعاناة الشيخ الجمري، ذهب إلى بني جمرة، وأخذ يقرأ «المولد» على الطريقة التي اعتادتها بعض مناطق البحرين في احتفالاتهم بالأفراح والموالد. هكذا يرسل الفقيد الكبير دروسه العملية في خلق الروح الوطنية الصادقة، التلقائية، المنبعثة من القلب، فتتسرب إلى القلوب في دفء ومحبة لا تزول. ولأنه كذلك التف حول نعشه ممثلو كل المناطق والقرى، وخفقت في توديعه كل القلوب.
أحدهم همس في أذني: «لم يكن لديه ما يخسره»... لكنه خسر الكثير من راحته وصحته وحريته، ولكن ربح أغلى ما يكون: «راحة الضمير». كان ينام قرير العين حتى وهو في السجن في تلك الطامورة بسجن القلعة الشهير العائد للقرون الوسطى، شيخٌ كبيرٌ عليل الجسد، يعاني من الآلام والأسقام، ويعيش على الأدوية، ولكنه كان عظيم الهمة، يقارع الظلام والعتمة في وسط النهار، عاش طويلاً يحمل الهمّ العام، نصيراً للفقراء رافضاً للظلم، وهكذا تكون الهمم الكبار كما قال الرضي:
يا نفسُ من همٍّ إلى همةٍ
أليس من عبء الأذى مستراح
أخيراً استراح فخرو، وألقى عن كاهله الهم الثقيل بعد أن «ألقى عصاه واستقرت به النوى... كما قرّ يوماً بالإياب المسافر». ذهب فخرو وترك ثلمة كبيرة في جدار الوطن لن يسدها إلا الإلتفاف حول هذا الوطن العليل
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 705 - الثلثاء 10 أغسطس 2004م الموافق 23 جمادى الآخرة 1425هـ