مع نشر هذه السطور، يكون عبدالله علي فخرو قد ووري الثرى في مقبرة المحرق. ويمكنني انا الذي سأغيب عن جنازته ان اصف لكم المشهد: جموع غفيرة من اهل المحرق وقراها الأربع والمنامة وبني جمرة وسترة ومناطق أخرى من البحرين ستغص بهم «الجبّانة». وسيتزاحم الناس على رفع الجسد الطاهر لمثواه الاخير ولن يتمكن علي ومحمد وعبدالرحمن أبناء الراحل العزيز وانسباؤهم من حمل النعش كثيرا. وأجزم ان الكل كان يعزي الآخر، ليست الايادي هي التي سترفع عبدالله فخرو الى مثواه الاخير بل القلوب.
انه أب من آباء المحرق وآباء البحرين، انه والمحرق صنوان: لا تستقيم المحرق من دون عبدالله فخرو ولا يستقيم عبدالله فخرو من دون المحرق. طرقاتها ممهورة بخطواته، أزقتها تحفظ طلته، احياؤها تعرف صوته، مجالسها تألف أحاديثه، القاسي منها والطلي، وناسها يحفظونه جيدا لأنه استوطن قلوبهم، لان عبدالله فخرو كان احدى حقائق هذه المدينة.
لكن قلبه اوسع من هذه المدينة الصغيرة، قلبه مفتوح على دنيا الله الواسعة، قلبه هو الذي كان يقود خطاه الى قرى البحرين ومدنها ومجالسها ومقابرها ومستشفياتها، يزور الناس، يواسيهم ويعزيهم، ناصحا، موبخا، ضاجا دوما بما عرفناه عنه: صراحة يعجز عنها أي انسان. يعود المرضى في زيارة اسبوعية ثابتة طالباً منهم الثبات وداعياً لهم بالأجر والعافية.
كيف لنا الآن ان نرى المحرق من دون عبدالله فخرو؟ كان ينهرنا دوماً عن البكاء في المقابر، فهل نملك ان نحبس دمعة اليوم على «بوعلي»؟ سيحبسون الدموع لانهم يعرفون وصاياه وكلماته، لكن لكم أن تتأكدوا انهم لن يصمدوا طويلاً. سيبكون في دواخلهم أو كلما اختلوا بأنفسهم وقد تطفر الدموع من عين احدهم في المجلس لا على عبدالله فخرو بل على حالهم من دون عبدالله فخرو، لأن عبدالله فخرو كان لسانهم وضميرهم.
تترقب المجالس طلته، وبين الترقب والانتظار وحساب العواقب، لا يستقيم مجلس من دون عبدالله فخرو. ان لاذ بصمته سألوه الرأي، وان تحدث لن يجدوا غير الصراحة عارية، سيقول ما يطرب له بعضنا وما يكرهه بعضنا. سيهز بعضنا رأسه موافقاً وسيصمت بعضنا الآخر وسيستأذن بعضنا الآخر للانصراف. سيعجبنا بعض كلامه الذي لا ننطق به لاننا مشدودون بمصالح الدنيا: أولاد نربيهم، أعمال نرتزق منها. وان حسبناه يبالغ ولم نطرب لبعض كلامه، سنبتسم لأننا ظفرنا بطرفة جديدة من العم «بوعلي». طرفة ستحملها الرياح في اغماضة عين، أحاديثه وطرفه وحتى اشتباكاته اللفظية كانت ملح أيامنا. سنبتسم حتماً لأننا ندرك ان عبدالله فخرو لم يكن يملك في هذه الدنيا سوى قلبه ولسانه.
قبل بضع سنوات، كنت بقربه في أحد مجالس العزاء وكان قد خرج لتوه من سجن ألفه. سأله أحدهم: «كم دفعت كفالة ولد عمي؟». رد العم بوعلي: «ألف دينار ولد عمي». لم تكن الأولى ولم تكن الاخيرة، عقّب السائل: «أقول عيل خلصت المكدة ولد عمي»، ضحك العم عبدالله وضحكنا. هذا هو عبدالله فخرو: إيمان لا يتزعزع، صراحة عارية وربما مخيفة... وضحكة من القلب.
في المرات التي التقيه، كنت أسعى دوماً لنبش ذاكرته، فالعم بوعلي ليس لساننا فحسب، بل ذاكرتنا أيضاً. ذاكرته كانت متوهجة دوماً، لكن في بلد لا يحفل أهله كثيراً بالتاريخ، رحل بوعلي وذاكرته وأخذها الى مثواه الاخير. لم نفقد لساننا بل جزءًا غير قليل من ذاكرة مدينة وذاكرة بلد.
صوته الداوي كان له دوي آخر، دوي عذب، منساب كماء جدول صاف، صوت يخاطب وجداننا ولا يستنفر حواسنا. نعرف قصائد الصوفيين والمدائح النبوية بصوته. الآن أتساءل: هل كان ذلك الشريط الذي أهداني إياه صديق قبل أيام علامة؟ شريط يحوي قصيدة مستقرة في وعينا، كنا نسمعها من المنشدين الجوالين من قرى البحرين ينشدونها بنبرة حسينية، نسمعها في الموالد، أسمعها من والدتي رحمها الله وأخيراً بصوت العم عبدالله فخرو. في الشريط ينشد العم بوعلي:
ليس الغريب غريب الشام واليمن
ان الغريب غريب اللحد والكفن
ليس لنا الآن سوى أن نطلب لك الرحمة والغفران ولنا أيضاً، ان نوالي أيامنا وحياتنا من دون عبدالله فخرو وصوته الداوي
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 704 - الإثنين 09 أغسطس 2004م الموافق 22 جمادى الآخرة 1425هـ