يختلف الناس كثيرا عن محمد حسنين هيكل منذ أكثر من نصف قرن. وعندما اعتزل الكتابة حديثاً و«استأذن بالانصراف»، انقسم المعلقون إلى فئتين واحدة استقبلت هذا القرار بترحيب، على أن هيكل استهلك نفسه، وأخذ يدور في الدائرة القديمة نفسها من دون جديد، وعليه أن يرتاح ويريح، فمن الأفضل أن يعتزل لأنه جزء من ماضٍ يتذكره الناس ولا يفيد المستقبل. وآخرون هرعوا للولولة بأن هناك خسارة جسيمة للفكر العربي، إن انقطع هيكل عن الكتابة، ربما رغبة منهم في أن تستمر أحلامهم يدغدغها الحبر الأزرق المسال من مقدمة وثنايا مقالاته المسهبة والمطواعة لكل ما هو مثير وغامض ومؤامراتي.
شخصية هيكل أمام مريديه شخصية قريبة إلى الكهانة القديمة، فكل ما يقوله لا رادّ له عندهم. التسليم المطلق خلق هذه الشخصية غير الديمقراطية، إذ إنه، انسجاما مع تلك الصورة، يرفض بثبات أن يناقشه أحدٌ أو يرد على ما يقوله، حتى لو كان بعض ما يقوله لا يتوافق مع العقل أو يطابق الحقيقة.
لا أعرف على وجه اليقين سبب هذا الاستسلام للبعض أمام كل ما يقوله! ربما هناك تشابك في مخيلتهم بشأن موضوع المرجعية، فهيكل كان ملازما لعبدالناصر، الرجل الذي أراد أن يُقدم مشروعا إلى النهضة العربية، ولكنه استخدم أدوات مضادة لنجاح أي مشروع نهضوي حقيقي، أي استخدم بتعسفٍ أدوات القمع، ففشل المشروع داخلياً وخارجياً. هذا التلازم بين الأصل والصورة في مخيلة البعض، كاد يوحّد الصورة بالأصل، وربما هو سبب القبول والتسليم بكل ما يقوله.
ربما تعلق البعض «النوستلجي» بذاك المشروع، هو ما يجعلهم يتخلون عن عقولهم لفترة وينصتوا، من دون تفعيل أداة النقد لديهم وهي العقل، لحديث هيكل، والبعض الآخر يرى أن تنزيه هيكل والاستبشار بأقواله ميزة تضع التابع في دائرة رضي المتبوع.
ربما بعض هذه الأسباب أو أسباب أخرى تجعل الكثير من القراء وبعض المشاهدين يتحدثون عما قال هيكل بتسليم لا تشوبه شائبة، وفي يقيني أن الإقرار بالشيء ونقيضه، كما يفعل كثيراً هيكل في كتاباته وأحاديثه أخيراً، يصادف هوى دفيناً لدى كثيرين من المتابعين لتصديق ما يريدون أن يسمعوه لا ما يتوجب عليهم أن يسمعوه.
بعد هذه المقدمة القصيرة فإن ملاحظاتي عن الأحاديث المتلفزة لهيكل تأتي في الشكل وفي الموضوع معاً. أما الشكل فإن حديثه المسهب يصلح ربما للاستماع أكثر مما يصلح للمشاهدة، أو هو يخص عصر الراديو، ولا يمت لعصر التلفزيون من قريب أو بعيد. لعل الراديو أيضاً لم يعد يقبل برنامجاً تمتد فترته لمدة ساعة استماع، مهما كان المتحدث، ومهما عظم الموضوع.
لقد توفي أخيرا الإذاعي البريطاني/الأميركي الأشهر الستر كوك، وهو الذي اشتهر لمدة نصف قرن من خلال محطة الإذاعة البريطانية الناطقة بالانجليزية، في برنامجه الأسبوعي ذائع الصيت (رسالة من أميركا) التي كانت تستمع إليه الملايين من الناس... هذا البرنامج، وهو إذاعي، لم يتجاوز زمنه ثلاث عشرة دقيقة فقط لا غير، فما بالك بساعة كلامية تلفزيونية يفقد المشاهد، حتى المتحمس، اهتمامه بعد عشر دقائق فقط من بدء الحديث، ومن حيث الشكل أيضاً فإن هيكل يبدأ الحديث في نقطة، ثم يتحوّل إلى موضوع آخر، وفي السياق ينسى النقطة أو النقاط التي أشار إليها أولاً فلا يعرف المتابع، حتى الفطن، أين الموضوع الأصلي من الفرعي.
إذا تجاوزنا الشكليات إلى الموضوع نفسه، فإن الافتراض أن من يتابع مثل هذه البرامج الجادة والتاريخية، هو على اطلاع أو شبه اطلاع على خلفية الموضوعات التي تبحث، ومن هنا فإن هيكل ربما لا يتوقع أن هناك أسئلة تثار في ذهن المتابع الذي له الحق في أن يحصل على إجابة لها، بدلاً من هذا المنولوج الصلد من التلقي من أعلى إلى أسفل، أي من هيكل إلى المتلقين المستكينين، وخصوصاً إذا عرفنا حقيقتين، الأولى: ان الكثير من الموضوعات التي تطرح لها أكثر من وجهة نظر واحدة، كما أن التكنولوجيا اليوم أصبحت قادرة على التواصل السريع في عصر التقنية المتفوقة للأخذ و الرد، التصويب والتصحيح.
أحد أهم الملاحظات على برنامج هيكل التلفزيوني انه يغرف من بئر ورد منه الماء سابقاً أكثر من مرة حتى كاد أن ينضب، فليس المهم أن يعرف المتابع أفكار هيكل بشأن أميركا والصراع الدولي في الفترة التاريخية السابقة، يريد المتابع أن يعرف تفسيراً لما يحدث اليوم على الساحة القريبة منه، وكيف سيتطور في المستقبل، وما هو تأثير كل ذلك على حياته ومستقبله، فالقوى الفاعلة اليوم على الساحة في الشرق الأوسط، هي قوى الإسلام السياسي، والسياسيون الجدد في العراق، وكيف تفكر الإدارة الحالية في واشنطن، وغيرها من العناصر المستجدة، لا علاقة هيكل بالسفير الأميركي قبل السابق!
لعل هذا الفارق الزمني في تتبع الحوادث ومعرفة الأشخاص وتطور الزمن، هو الذي دفع هيكل أن يكتب في أكتوبر/ نوفمبر العام 2001 في مقاله منشورة في مطبوعة وجهات نظر الشهرية، ان من قام بأعمال الإرهاب في نيويورك وواشنطن يوم الحادي عشر من سبتمبر/ ايلول من ذلك العام هم الصرب، وبرر ذلك في أطروحة مطولة استخدم فيها هيكل كل قدراته التحليلية. أو أن يكتب لـ «التايمز» اللندنية في سبتمبر 1990 (ونشرت الرسالة في زاوية بريد القراء)، يبرّر فيها الاعتداء والاحتلال الذي قام به النظام العراقي السابق على الكويت. أو تحليله السياسي اللاحق في كتابه «حرب الخليج»، الذي ساق فيه ما ساق من تحليلات، لينتهي في آخر المطاف إلى القول ان أميركا والتحالف الغربي، لم يكسبوا تلك الحرب، بدليل بقاء صدام حسين حياً واستمراره في السلطة! وبقاء جزء كبير من الجيش العراقي قائماً لم يتم تدميره!
السؤال المطروح هو: هل تصلح أطروحات الخطاب السياسي للفترة الناصرية اليوم أن تتصدر الخطاب الإعلامي المعاصر؟ أم ان مفردات وهيكلية ذلك الخطاب، مع الثورة في وسائل الاتصال والتغيرات الهائلة في توازن القوى الدولية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وبعد دخول العالم، كل العالم عصر العولمة، أحدثت تغيراً جذرياً في مفهوم ومضمون الخطاب السياسي والإعلامي، ولم يعد كافياً لاقناع المتابعين بجدية الطرح، عدا عن صدقيته، أن يأتي هيكل بمفردات قديمة مبنية على مرجعية أقدم؟
حقيقة الأمر ان توظيف خطابه السياسي والإعلامي في هذا الوقت يدل على أن النخبة العربية، وإن غادر بعضها المواقع القديمة، إلا أنها مازالت مرتبطة بخطاب عاطفي يميل الجمهور الأعرض إلى تصديقه، وخصوصاً عندما يكون هدفه الكامل والواضح وضع كل اللوم في كل ما نعانيه على كاهل الآخرين ويا حبذا الولايات المتحدة!
من هنا تصبح أحاديثه في التلفزيون، والذي سوّق في الفترة الناصرية للإعدام المعنوي لكل رأي مخالف، وخصوصاً ان ذاك الرأي اعتمد على أطروحات دينية، أصبح اليوم للأعداء السابقين موسيقى تشنّف الآذان، وكأننا لم نبرح الكلية المعتمدة على الخطاب القومي، حتى نقع في الكلية الموصوفة بالإسلام السياسي.
محتوى أحاديث هيكل تذكّرنا بنظرياته عن «الحقبة السعودية» أو عن «لا نستطيع مناطحة أميركا»، أو مناصرة الرئيس السادات ضد الناصرين، ثم الانقلاب عليه، هي خلط بين الطموح السياسي تأثيراً، وبين رواية الحوادث وكأنها نهائية.
لا أعرف ماذا سيبقى من أحاديث هيكل بعد فترة، فقد قيل ان الصحافي هو كاتب المسودة الأولى من التاريخ، وليس كل التاريخ أو التاريخ الحقيقي، وما وصل إلينا اليوم من مذكرات كتبها رفاق عبدالناصر ومعاصروه تنبئ بأن ليس كل أو معظم ما كتبه هيكل يحمل الحقيقة النهائية. فهل تصبح الأحاديث التلفزيونية هي إخراج آخر للمقولات نفسها في ثوب جديد مع تكييفها لمتطلبات الحوادث؟
لعل ظاهرة الحديث التلفزيوني بعد عزم التقاعد عن الكتابة، تعطينا لمحة عن وضع «الأستاذ» النفسي والمعنوي اليوم، وربما لو استمع إلى نصائح أصدقائه، لما وضع نفسه في هذا الموضع الذي أقل ما يقال فيه ان محمد حسنين هيكل تحوّل إلى «حكواتي» معتمداً على التناسي أو النسيان الذي هو سمة ذاكرة بعض العرب، وفاته أن هناك آخرين لهم ذاكرة
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 704 - الإثنين 09 أغسطس 2004م الموافق 22 جمادى الآخرة 1425هـ