مقترح تشكيل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يولد خديجاً وسيموت سقطاً في أقرب وقت. فلم يلق مقترح معارضة شعبية شديدة مثل هذا المقترح، لسبب بسيط، هو أن استيراد نبتة من أرض إلى أخرى مختلفة عنها كثيراً محكوم عليه بالفشل. وما يصح في الجغرافيا والطبيعة يصح أيضاً في المجتمع البشري.
ليست القضية وفرة المقترحات حتى نتباهى بها، وانما عقلانيتها قبل ان نطرحها للعموم لتتدحرج في الشارع مثل الكتلة الملتهبة فتوتر الوضع، فالناس لم تكد تنسى مقترح الشعائر حتى دهمها هذا المقترح الجديد الذي ينم عن جهلٍ بالبلد وخصوصياته.
ولكي نفهم المجتمع علينا أن نفهم الجغرافيا والتاريخ أولاً. ومن هنا نقول إن هذه الهيئة محكوم عليها بالفشل الذريع، حتى لو لم تعترض عليها الصحافة ولم يقف ضدها أغلب المواطنين.
نحن لن نتكلم عن الجانب العقائدي، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفرائض التي أوجبها الدين الحنيف لتصحيح الأوضاع الفاسدة والانحرافات التي تقع في المجتمع، إن على مستوى الفرد أو الجماعة. لن نناقش في هذا الجانب لأنه من المسلّمات، ولأن الدخول في التفاصيل سيفتح أمامنا ألف سؤال وسؤال. من هنا سنقتصر على الحديث عن إملاءات الجغرافيا وحكم التاريخ.
البحرين مجموعة من الجزر الصغيرة، تحيطها المياه من كل جانب، في قلب الخليج. هذا الموقع الاستراتيجي فرض عليها دوراً اتسم بالانفتاح على الآخرين حتى أضحى طبيعةً متأصلةً عبر القرون. فأنت مادمت في الوسط لابد أن تفتح صدرك للجميع، ولأنك بلدٌ صغيرٌ يرغب العيش في سلام مع الآخرين فلابد من محاولة كسب احترامهم، وكسب الاحترام لا يكون بسلوك سبيل التشدد والتضييق.
ومن الملاحظات المدوّنة عن سكان الجزر تعاطيهم الايجابي مع الآخرين، ما يفتح لهم الطريق للتغلب على العزلة التي يفرضها عليهم البحر. اقرأ أحوال الجزر وتعرّف على أخلاق سكانها من قديم. فالطبيعة تفرض احكامها هنا، إضافة إلى لغة المصالح المتبادلة التي لا يمكن إسقاطها من الحساب... لكن كل هذه الحقائق غائبة عن أذهان أصحاب مقترح هيئة الامر والنهي.
«بحرين» وليس بحراً واحداً
جانب آخر لم يمر على خيال هؤلاء، ان اسم «البحرين» الذي يحمل لمسة من لمسات الطبيعة، المفروض ان ينبهنا إلى أن مثل هذا المقترح سيفتح باب التنازعات واسعاً، ويلقي أمامنا بالأسئلة الحرجة: عن «أي أمرٍ»، و«أي نهي»؟ و«أي معروف» و «أي منكر»؟ فواللهِ إذا دخلنا هذا الدهليز الطائفي المظلم فلن نخرج منه أبداً إلا بسيول الدماء. تجارب الدول المجاورة وغير المجاورة تقدّم لنا العبرة على طبقٍ من ذهب، فما لهؤلاء القوم يصرون على استيراد التجارب المتخلفة بعد ثبوت فشلها للعالم أجمع؟
ثم ان عليهم ان يعوا ان هذا الشعب الذي لا يثقون بإسلامه، من الشعوب المتمسكة بإسلامها، ففي محرم الحرام تجد نصفه في مآتم عزاء عاشوراء، ونصفه الآخر يذهب لعمرة عاشوراء. وفي موسم الحج يذهب إلى الاراضي المقدسة أكثر من ضعف العدد المحدد رسمياً، غير مواسم العمرة التي تمتد على امتداد العام، فينتهز البحرينيون أية عطلة قصيرة للاعتمار حتى لو كانت ثلاثة أيام. مثل هذا الشعب «المتدين» لا يحتاج إلى عصا تسوقه للصلاة وقت الفريضة. هذا الشعب الذي عُرف عنه التسامح عبر تاريخه الطويل، يصلّي من يصلّي في المسجد إن أراد، ويصلّي إن أراد في بيته، فلا تخرج فتوى بتكفيره وإخراجه من الدين.
قصارى القول إن هذا المقترح القاصر ولد خديجاً وسيموت سقطاً، ليس لأننا نعارض الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانما لأن هذا المقترح «نزل إلى السوق» في القرن الخطأ، و«البحر» الخطأ، وباللغة الخاطئة التي تنكر مسلمات الجغرافيا والتاريخ... وتقفز فوق أخلاق هذا الشعب النابت بين الخضرة والمياه.
ويبقى إن كان ثمة فائدة ضئيلة ترشح من مثل هذا المقترح، فهي انه يلفت إلى جانب مهم، يجب ان يعيه المسئولون على وجه التحديد، وهو ان هناك ممارسات واخطاء وتجاوزات تصدم النفسية البحرينية في الصميم، وتجرح مشاعر هذا الشعب الملتزم بتعاليم دينه، وتجر إلى ردود فعل عفوية تخرج بين الفينة والأخرى. وهو ما تجلّى في ما شهدته البلاد من حوادث احتجاج ضد وجود فنادق في المناطق الشعبية، أو استقدام مطربة خفيفة الشأن اسمها نانسي عجرم، أو أماكن بيع الخمور أو الدعارة الموجودة في بعض الأحياء هنا وهناك. نقول ذلك وقد قرأنا بالأمس خبر محاكمة تسع تايلنديات بتهمة ممارسة الدعارة في شقق مفروشة. فمن يملك هذه الشقق؟ ومن هو وراء هذه الشبكة؟ خصوصاً ان هناك من يقول بوجود ثلاث شبكات كبرى تمارس هذه التجارة الرابحة، لا ندري من يقف وراءها.
ولأصحاب المقترح الأصلي، نتوجه باقتراح بديل: لماذا لا يتم التحري عن هوية هذه الشبكات، ومعرفة أصحابها، والتوجه لهم بالنصح والتخويف من عذاب الله؟ جربوا وامروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، لعلهم ينتهون!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 704 - الإثنين 09 أغسطس 2004م الموافق 22 جمادى الآخرة 1425هـ