بوصفه المغرب «بالقوة المحتلة في الصحراء الغربية»، لم يأت الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بجديد، بل كان يعبر ببساطة، عن حقيقة كامنة دفينة في داخله منذ عقود. لذلك، لم يتمكن من الرد على مبادرة الملك محمد السادس بأحسن منها، كما تقضي الأعراف في العمل السياسي، إنما اختار في المقابل التصعيد. ذلك، في الوقت الذي جرت فيه تغييرات في أعلى هرمية المؤسسة العسكرية، ما يدل على أن ساكن قصر المرادية لم يتخلص بعد من عقدته حينما كان وزير خارجية للرئيس الراحل، هواري بومدين، وبأن النزعة التوسعية لاتزال تتحكم بخياراته المستقبلية.
منذ أسابيع عدة، وعشية زيارة وزير الداخلية مصطفى الساهل للجزائر تحديداً، انبرى وزير في الحكومة المغربية الحالية ورئيس حزب أساسي كبير للتأكيد في تصريح صحافي، أن الفوز الساحق الذي حققه بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية سيجعله مطلق اليدين في اتخاذ قرارات تاريخية، في طليعتها التقارب مع المغرب، وبالتالي تسريع حل مشكلة الصحراء... وأنه «متفائل كثيراً». وبدأت الصحف والمجلات المغربية في التسابق في تخصيص أغلفتها وصفحاتها الأولى لعناوين رئيسية تتحدث عن «ذوبان الجليد» بين البلدين الجارين الشقيقين، وعن «عودة المياه إلى مجاريها بسرعة» مع إعطاء التبريرات اللازمة والتحليلات الافتراضية. ولقد راهن هؤلاء، على ما يبدو، على معلومات خالية من أية معطيات أو وقائع ملموسة، ضختها أجهزة غربية متعددة بشأن الضغوطات التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية على كلا الطرفين من أجل التوصل إلى تفاهم بشأن مسألة الصحراء.
مرة أخرى، تخطئ الأوساط السياسية الحزبية والإعلامية على السواء - هذه الأخيرة، التي تشن منذ نحو أسبوع، حملات بعيدة مع الأسف عن الموضوعية في معالجة خلفيات الموقف الذي اتخذه الرئيس الجزائري - في تقديراتها لمجرد اعتقادها بأن هذا الأخير حسم نهائياً عملية اختبار القوة مع الطرف الذي يطلق عليه تسمية «السلطة الفعلية»، أي الجيش. فالمشكلة بين بوتفليقة والمؤسسة العسكرية لم تكن يوماً مرتبطة بحل نزاع الصحراء، أو التقارب والتباعد مع المغرب. الموضوع الذي لا يأتي، بحسب رأي عدد من السياسيين المتنورين، على رأس أولويات الحكم في الجزائر، إضافة إلى أنه لم يشكل مادة لتباين حاد بين الرئاسة والجيش، إذ إن الصراع كان على الدوام على التوازنات وتقاسم السلطات وعلى الامتيازات.
والدليل أن الرئيس الجزائري الذي هو عملياً وزير الدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلحة، صاحب القرار الأوحد في هذا المجال، لم يتمكن من تجاوز رموز المؤسسة العسكرية بدءاً من الجنرال المتقاعد صلاح أحمد قايد مروراً بإحسان طاهر، وصولاً لباقي الجنرالات، الممسكين بزمام الولايات المتعارف على تسميتها بالاستراتيجية أمنياً. ذلك، ناهيك عن بقاء رموز السياسة «المزعجة» مثل مدير جهاز الاستخبارات والأمن العسكري الجنرال محمد مديان (توفيق)، وزميله «عدوه اللدود» رئيس جهاز مكافحة التجسس الجنرال إسماعيل لعماري في مواقعهم. علماً بأن بوتفليقة سبق وأرسل كتابين إلى كل منهما يذكرهما بموعد الاقتراب من استحقاق التقاعد، ما دفع بمديان يومها إلى تسريب ملفات للصحافة الجزائرية تتضمن تورط أخ الرئيس سعيد ووزير الداخلية يزيد زرهوني، والنفط والطاقة شكيب خليل بالاعتداء على أملاك عامة للدولة.
فبغض النظر عن الموقف التصعيدي المفتعل الذي تمثل في الرسالة التي وجهها الرئيس الجزائري للأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، حاول فيها استعراض قوته الشخصية على رأس السلطة، تجاوز فيها مضمون «التوضيح» الذي نشرته وزارة الشئون الخارجية قبل أسبوع، والذي انتقد فيه الدول التي طالبت «بحوار مباشر» بين الجزائر والمغرب، الذي يعبر عن «خلط مزعج ومخادع»، فإن المسئولين الجزائريين يعرفون جيداً بأنه هنالك خطوطاً حمراً دولية لا يمكن لأحد تجاوزها في مسألة نزاع الصحراء. لذلك لجأ هؤلاء إلى دفع رئيس البوليساريو محمد عبدالعزيز للواجهة من جديد، مراعين جيداً عامل التوقيت بحيث تزامنت مواقفه الموتورة التي صدرت في صحيفة «ليبرتيه» الجزائرية في الثالث من هذا الشهر - والتي أشار فيها «لعدم استبعاد العودة للكفاح المسلح» - مع الخطوات الجديدة التي يعتزم الحكم الجزائري انتهاجها في المرحلة المقبلة.
في هذا السياق، يرى خبير استراتيجي فرنسي ممن رافقوا وزيرة الدفاع ميشال أليوماري للجزائر أن هنالك الكثير من المعطيات تؤكد أن الحكم في هذا البلد بجميع أجنحته وبرئيس الجمهورية على وجه التحديد يدغدغهم مجدداً «حلم القوة الإقليمية الرائدة»، وخصوصاً مع تدفق العائدات الاستثنائية من الهيدروكربورات، الناجم عن الارتفاع القياسي لأسعار النفط وزيادة الصادرات من الغاز الطبيعي بعد الطلبيات التي قدمتها شركات أميركية، كذلك الاحتياطات من النقد الأجنبي، التي من المتوقع أن تلامس عتبة الـ 39 مليار دولار بنهاية هذا العام.
ومن المؤشرات الأخرى التي تثبت هذا التشخيص، الاستمرار في تطوير القدرات العسكرية الهجومية وتفيد المعلومات أنه بعد شراء «السوخوي» المستحدثة من روسيا والبحث عن تعزيز الباقي الموجود بتجهيزات إلكترونية متطورة تفاوض الجزائر في هذا الفترة جهات عدة للحصول على دبابات ومدرعات وطائرات تجسس من دون طيار.
محصلة قرار
تجزم التقارير الواردة لبعض البلدان الأوروبية والمؤسسات المالية العالمية المهتمة بما بات يطلق عليه منذ فترة في أروقة وزارات الخارجية «العملية الانتقالية بالجزائر»، كذلك تلك التي أعدها خبراء المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، و«منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE»، ووكالات تحديد المخاطر مثل: «موديز»، أو «ستاندرد أند بورز»، بأن الذي يحصل في هذا البلد حالياً، وفي جميع الموضوعات، بما فيها نزاع الصحراء إنما هو «محصلة لقرار سياسي» جماعي. وكل ماعدا ذلك لا يعدو كونه تخمينات ورهانات في غير محلها، لن تلبث الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة تأكيده. وتشير التقارير عينها، إلى أن الموقف التصعيدي الذي بدأته وزارة الخارجية الجزائرية والذي تم إلحاقه برسالة الرئيس الجزائري للأمين العام للأمم المتحدة، لم يكن مفاجأة كون غالبية المسئولين الجزائريين الذين تمت مناقشة الموضوعات الخاصة بمجالاتهم واختصاصاتهم، من سياسية واقتصادية وتنموية ومالية، كانوا يتحدثون اللغة نفسها وضمن المنطق نفسه عندما كانت تطرح عليهم أسئلة بشأن إمكان التفاهم حيال مشكلة الصحراء بينهم وبين جيرانهم المغاربة. ومن المعطيات التي عززت قناعة العاملين على وضع هذه التقارير، تقاطع المعلومات التي وردت منذ أشهر من مصادرهم في بعض الدول الخليجية التي لبعضها علاقات وثيقة بالرئيس الجزائري تعود لإقامة هذا الأخير فيها سنوات عندما اختارها «منفى له». وتأتي في طليعة هذه الدول قطر التي كانت تنوي القيام بوساطة بين الجارين المغربيين، لم تلبّث الدوحة أن اكتشفت أنه ليست هنالك جدية لدى الجزائريين في الشروع بوضع آلية وبرنامج يؤدي إلى تقريب وجهات النظر وصولاً لإحراز تفاهم بشأن هذه المشكلة، ما حدا بوزير خارجية قطر، السياسي المحنك، جاسم بن حمد بن جبر آل ثاني، المعروف بقربه من دوائر أميركية كبيرة، إلى القول خلال عشاء جمعه ببعض رجال أعمال سوريين ولبنانيين في زيارته الأخيرة لدمشق بداية الشهر الماضي، رداً على سؤال بشأن وساطة بلده: «يبدو أن الوقت لم يحن بعد برأي اخوتنا في الجزائر»، مضيفاً «أنه لا يجب الاعتقاد، ولو للحظة واحدة بأن هنالك وجهات نظر متعددة بشأن موضوع الصحراء لديهم. إن الذي نلحظه هو محصلة قرار سياسي».
ولم يُخف مسئول عربي آخر، طلب عدم ذكر اسمه، تخوفه من التصعيد الجزائري الذي يجب بحسب رأيه، على الحريصين على مصلحة البلدين المغربيين إثره أن يتدخلوا وبسرعة لاحتوائه، ذلك قبل أن يتحول إلى انزلاق خطر يصعب بعده وقف التداعيات. ويلمِّح هذا المسئول الذي التقى نظيراً جزائرياً له في لندن بداية الأسبوع الماضي إلى أنه لمس من خلال حديثه بشأن عدم التجاوب مع مبادرة العاهل المغربي نوعاً من «النظرة الفوقية» للأمور من خلال حديثه عن «ترتيب البيت الداخلي الجزائري» والتأكيد على كسب المعركة الاقتصادية والاجتماعية، وتراجع حجم الدين، وكسر شوكة « المتربصين» بالنظام من وسائل إعلام مأجورة وسياسيين يستمدون قوتهم من الخارج. أما ما أزعج هذا المسئول العربي فقول محدثه إن مرحلة «حرب الرمال» ولت وعلى المغاربة أن يدركوا أن جزائر اليوم، بقدراتها البشرية وقيادتها الحكيمة سياسية وعسكرية هي غير ما يعتقد الكثيرون، وإنه يتحتم على الجميع، برأيه، في منطقة المغرب العربي أن يقروا وبصورة نهائية، بالنظرية القائلة: «إن الجزائر قوة إقليمية يجب التعامل معها على هذا الأساس وإنها وحدها القادرة على حمايتهم وأنظمتهم من أعدائهم إذا ما عرفوا كيف يصطفون خلفها ولم يتوانَ هذا المسئول الجزائري عن الإشارة وبشكل تحذيري إلى أن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي حيال سياسة بناء المحاور التي يضطلع بها، بحسب قوله، الملك محمد السادس في الفضاء المغربي
العدد 703 - الأحد 08 أغسطس 2004م الموافق 21 جمادى الآخرة 1425هـ