أثناء انعقاد المنتدى الاقتصادي العراقي الإيراني الأسبوع الماضي في طهران قال رئيس «المؤتمر الوطني العراقي» أحمد الجلبي: «إن هناك عشرين ألف مسلح أجنبي حالياً في العراق يعملون في إطار شركات أمن خاصة».
إذا ما اضفنا إلى هذه المعلومة تحذيرات وزير الثقافة العراقي من «وجود حفريات وشركات خاصة تعمل في منطقة آثار بابل العراقية الشهيرة نجهل عنها كل شيء ولا يسمح لنا بالدخول إلى المنطقة من جانب القوات الأميركية».
ووضعنا إلى جانبها المعلومات المتواترة عن «وجود نشاط مكثف للمخابرات الإسرائيلية على امتداد العراق»، كما جاء على لسان أكثر من مصدر عراقي آخرهم المسئول في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق محمد الحيدري، ناهيك عن تأكيدات نقلتها تقارير من الصحافة الأميركية. عند ذلك نستطيع الإعراب عن قلقنا الشديد لما يخطط للعراق من أذى ومآسٍ جديدة.
ليس مهماً هنا أن نكتشف ونتأكد من دقة هذه المعلومات بتفاصيلها المنشورة على صفحات الصحف بقدر ما هو مهم التأكد من أن القدر المتيقن من هذه المعلومات هو ذلك الخيط الرفيع الذي يربط كل هذه الحلقات أو المستويات ألا وهو وجود خطة ما للعراق حضر لها ويعمل عليها الإسرائيليون منذ مدة، وهي الاحاطة بالموضوع العراقي - بالملف العراقي - من كل جانب. وهو الخيط الذي يستطيع أن يكتشفه اي مراقب أو محلل سياسي ثاقب النظر وقارئ جيد للمعلومة مهما كانت نادرة أو شحيحة.
العارفون بالشأن الإسرائيلي عن قرب يتذكرون جيداً فكرة أو مقولة «دول الإطار» التي كان يعمل عليها الإسرائيليون في الستينات والسبعينات والتي انكشفت تفاصيلها في الثمانينات وألفت عنها كتب في ذلك الوقت وخصوصا بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وافتضاح أمر الإسرائيليين مع شاه إيران.
والخطة كانت تقضي بالعمل في كل من إيران الشاه وتركيا العلمانية واثيوبيا هيلا سيلاسي لتحويل هذه الدول إلى قوى حليفة لـ «إسرائيل» تطوق الدول العربية أو العالم العربي أو الوطن العربي بسياج معادٍ يجهض أية محاولة جدية للعرب في الاتحاد أو مجرد التضامن، ناهيك عن الحصول على الدعم أو التضامن من دول الجوار تلك للقضية الأولى والمركزية لدى العرب كما هو مفترض أي القضية الفلسطينية.
المراقبون اليوم للشأن العراقي وما يجري من مخطط مدروس ومعد بإحكام ضد العراق الجديد من جانب الإسرائيليين يلحظون اليوم وجود مثل ذلك المخطط القديم، ولكن هذه المرة بطريقة معكوسة هدفها تطويق العراق الجديد بدول «إطار» جديدة! ولكن كيف؟
بدأوا بتركيا أولاً عندما صعدوا معها حتى قبل بدء الغزو للأراضي العراقية ومن خلال مجموعة خطوات معقدة من الفعل والانفعال من أجل افراز واقع جديد داخل العراق الجديد لا مجال فيه لاي تعاون أو تحالف أو تضامن بين تركيا والعراق الجديد، بل على العكس تماماً انعدام ثقة وعداء وتوجس وشعور بخطر مقبل منها ربما يؤدي إلى اقتتال تركي عراقي خطير. والطريق الاقصر والمفضل في هذا السياق كان المسألة الكردية العادلة، ولكن الملتبسة والمثيرة للجدل.
ثم سرعان ما انتقلوا لإيران الجارة الثانية للعراق وبدأوا بحملة واسعة النطاق معقدة التركيب متناشرة الاشكال والأساليب هدفها الاصلي خلق جدار سميك من عدم الثقة بين العراق الجديد وإيران الثورة الإسلامية باعتبارها الخطر الكبير على عروبة العراق واستقلاليته وما إلى هنالك من مكونات جديدة للكيان العراقي المراد توظيفه في هذه الخطة وشرطه الاساسي بان يكون منفصلاً عن التشيع الإيراني.
المرحلة الثالثة وكما يتوقعها المتتبع الحاذق لهذا الملف هو أن يذهب الإسرائيليون لخلق جدار جديد من الفصل العنصري بين العراق الجديد ومحيطة الجغرافي، ألا وهو جدار الفصل بين العراق «الديمقراطي المسلم الاعتدالي والوسطي» المهدد بإسلام «القرون الوسطى»، والإسلام «الاصولي المتطرف» الذي يلقى رعاية القوى العربية المحيطة بالعراق ومجتمعات الدول العربية السنية.
وبذلك يكون العراق الجديد قد اكتمل الطوق ضده، ولم يبق امامه الا القبول بقدره والتكيف مع هويته «الشرق أوسطية» الجديدة التي تصقلها وتشذبها وتهذبها يومياً وعلى الهواء مباشرة سياسة شارون الليكودية التي لا تقبل بأقل من محو الشخصية المحلية الدينية والقومية لكل مكونات المجتمعات المحيطة بالدولة العبرية صاحبة «الديمقراطية الوحيدة» في «الشرق الأوسط» حتى الآن!
مثل هذا المخطط يعني أن «العراق الجديد» يجب أن يتحول إلى جزيرة «مثالية» لمختبر مقولة «الشرق الأوسط» الجديد والكبير. «شرق أوسط» لا طعم ولا رائحة ولا لون له لا عرقياً ولا قومياً ولا دينياً وهو الأهم أن يكون منقطعاً عن جذوره الثقافية والحضارية بحجة أن «خميرة» الثقافة المتوارثة في هذه المنطقة من العالم إنما كانت هي السبب الرئيسي وراء كل الويلات التي عانت منها هذه المنطقة حتى الآن منذ أيام الحروب الصليبية حتى آخر نكبة للعرب والمسلمين في العراق بعد فلسطين.
إن هذه القناعة إذا ما ترسخت لدى غالبية نخبنا العربية والإسلامية وهي ما يبدو من الكثير منها وللاسف الشديد سواء عن جهل أو تجاهل متعمد وبغرض نيل بعض الفتات من مغريات السلطة والثروة والجاه فإنه يمكن أن نقول: على العرب والمسلمين السلام، إلى حين نهضة جيل جديد، ولكن بعد عقود جديدة من الالم والمعاناة والغربة والاغتراب
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 703 - الأحد 08 أغسطس 2004م الموافق 21 جمادى الآخرة 1425هـ