الجدل المستمر بشأن المعهد الديمقراطي الوطني (الأميركي) NDI مخلوط في عدد من جوانبه. ولكي أوضح كلامي أكثر فإني اعتقد بأن المعهد ومن يمثله في البحرين نفع الكثير من المؤسسات الأهلية حتى تلك التي «تعادي نظريا» أميركا وتطلق الشعارات النارية دائما. ولكن هناك مشكلة في الثقافة السياسية الأميركية التي يرفضها المسلمون والتي يخشى كثير من علماء الدين والمفكرين من خطرها على مجتمعاتنا، وهم في هذا محقون.
الثقافة السياسية الأميركية لها عدة أوجه، بعضها جميل جداً ولا أحد يمانعه، وآخر قبيح جداً ولا أحد يود رؤيته في أي بلد خارج أميركا. المعهد الديمقراطي الوطني بدأ في البحرين ووزع أثناء الانتخابات البلدية والنيابية مواداً تثقيفية في غاية الروعة والإتقان، وكان ممثل المعهد فوزي جوليد أكثر الأشخاص قراءة وفهماً للدستور الجديد ولقانون البلديات والقوانين الأخرى. وبفضل مداولاته التفت البلديون والعاملون في الجمعيات الأهلية (بما في ذلك الجمعيات المعارضة) إلى كثير مما ينفعهم.
يبقى أن المشكلة مع الثقافة السياسية الأميركية وهي موضوع آخر و في غاية التعقيد. فهذه الدولة العظمى الوحيدة يبدو لنا انها تقف ضد مصالح العرب والمسلمين في كل محفل وفي كل مناسبة وتساند أصحاب الخرافات (التي لا تنتمي لاية مفاهيم ديمقراطية او حقوق انسان) الذين اغتصبوا فلسطين. وحتى «مايكل مور» الذي أنتج فيلم «فهرنهايت 9/11» تطرق إلى كل شيء وانتقد كل شيء في الادارة الاميركية، ولكن لم يتطرق ابداً لموضوع «إسرائيل»؛ لأن ذلك كان سيقضي عليه وعلى فيلمه. فأميركا «العقلانية» تتحول إلى قوة جاهلة تساند الجهل المظلم، وهذا الجهل القائم على الأحقاد والخرافات تحول إلى بقرة مقدسة في أميركا بحيث لا يستطيع أي أميركي الوصول إلى الرئاسة وإلى الكونغرس إلا بعد أن يعلن إيمانه العميق بالخرافات اليهودية ومساندته لكل ما تقوم به «إسرائيل» الديمقراطية التي «يحيط بها الإرهابيون والقتلة».
أميركا تقيم الدنيا ولا تقعدها ضد باكستان وإيران لامتلاكهما تكنولوجيا متطورة في الطاقة النووية أو في مجالات أخرى، ولكن لم ولن نسمع كلمة واحدة أو حتى همسة ضد «إسرائيل» التي تملك ما لا تملكه حتى دول كبرى في الرؤوس النووية. وأميركا تود تصدير الجهل الذي يتحكم بإدارتها لنا أيضاً، ليتحكم بنا على أساس أن الحديث عن «إسرائيل» مقارن «للشرك العظيم» الذي تحرمه الثقافة الإسلامية.
التطرف ينتشر في منطقتنا، والعنف ينتشر في عواصمنا، ولكن ما السبب؟ نختلف مع أميركا وسنظل نختلف على السبب واساليب المعالجة. لدينا فوارق كبيرة، فنحن باعتبارنا مسلمين نؤمن بقدسية الله وحرمة الانسان، اما في أميركا فيؤمن جميع السياسيين بقدسية «إسرائيل» أولاً، وبالديمقراطية ثانياً.
وعندما نحاول الاقتراب مع الثقافة الأميركية فإننا على استعداد للتعاطي من الجانب الديمقراطي الذي يحتوي على مفاهيم العدالة والمساواة والشورى والشفافية والتجارة الحرة والاحسان للمستضعفين، وهي جميعها من صلب التعاليم الإسلامية، ولكن لا يمكننا أن نتحول إلى «ببغاء»، كما هو حال كبار الساسة الأميركان عندما يتعلق الأمر بـ «إسرائيل» وما يتطلب ذلك من ضغط شديد على البلدان الإسلامية لإضعافها استراتيجياً، بينما الجميع يتطور في كل مكان. فإيران الممنوعة من إكمال مشروع الطاقة النووية لديها جيران مثل الهند والصين اللتين تدشنان محطة أو محطتين نوويتين سنوياً، وبسبب ذلك تتطوران وأصبحتا من أكبر القوى الاستراتيجيةً، بينما تحرم جميع الدول الإسلامية من أي شيء له علاقة بالقدرة الاستراتيجية! سنبقى اذن مختلفين مع الثقافة السياسية الأميركية، على رغم عدم اختلاف كثير منا على الجوانب الحسنة التي مثَّل بعضاً منها المعهد الوطني الديمقراطي، وهي التي تتعلق بتطوير الجوانب المؤسسية للممارسة الديمقراطية.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 703 - الأحد 08 أغسطس 2004م الموافق 21 جمادى الآخرة 1425هـ