إذا كانت الـ 147 دولة الأعضاء في «منظمة التجارة العالمية» توصلت يوم الأحد الأول من أغسطس/ آب الجاري بجنيف، وبشق النفس إلى «اتفاق - إطار»، أعاد إطلاق دورة الدوحة المجمدة منذ العام 2001، فإن عدداً من الملفات الحساسة أجّل البت فيها إلى أوقات لاحقة، ما دعا مجموعة من الاقتصاديين إلى اعتبار وصف الاتفاق بـ «التاريخي» بالتشخيص المبالغ فيه.
لقد أعطى سيل التصريحات الصادرة عن ممثلي التكتلات التجارية الرئيسية في المنظمة، مثل: باسكال لامي (عن الاتحاد الأوروبي)، وروبرت زولليك (عن الولايات المتحدة)، وسيلسو أموريم (وزير خارجية البرازيل) وحتى الفرنسيين وزير التجارة فرنسوا لوس ووزير الزراعة هيرفيه غيمار، انطباعاً بأن كل الأمور دخلت في نصابها، وأن الخلافات أصبحت من الماضي، وأن كل طرف خرج منتصراً من هذه المفاوضات الماراثونية التي استغرقت خمسة أيام. مع ذلك، شعر عدد من الدول النامية أنه مُستَبعد من هذه المفاوضات التي سيطرت كلياً على مجرياتها كل من الولايات المتحدة، وأوروبا، وأستراليا، والبرازيل والهند.
ولم تترك التسريبات المقصودة من قبل المسئولين الكبار المشاركين في الاجتماعات المنعقدة على ضفاف بحيرة ليمان السويسرية، أدنى شك لناحية تأكيد أن الفشل هذه المرة ممنوع، وخصوصاً بعد أن تمت تهيئة جميع المناخات المواتية، كذلك حشد الحلفاء وتحييد المشاغبين وعزل الخصوم، في طليعتهم فرنسا. تهيئة لعبت فيها واشنطن دوراً محورياً، ومن الدلائل على ذلك، أنه مقابل إنقاذ دورة الدوحة وتفادي فشل كانكون مرة جديدة، تم السماح للبعض، على غرار المفوض الأوروبي باسكال لامي، التحدث بحرية وبلهجة المنتصر، وهو المتهم بارتكاب أخطاء تكتيكية في المفاوضات السابقة. فقبل انتهاء الجلسة الختامية، أعلن هذا الأخير باعتزاز أن «الزمن الذي كانت فيه القوى الكبرى في العالم توجه وتدير منظمة التجارة العالمية قد ولّى». ولم يكن، والحال هذه أمام المسئولين الفرنسيين الموجودين، إلا أن يلحقوا عملياً بالركب حتى لا يُتهموا بإفشال إطلاق عملية تحرير التجارة الدولية من خلال «الانحناء» أمام المنطق البراغماتي السائد، مقرين في آن معاً بأن هذا الاتفاق يشكل «خطوة مهمة» كون مسألة إصلاح السياسة الزراعية المشتركة، المطروحة في 26 يونيو/ حزيران 2003، لم يُعاد النظر بها.
فإذا كانت اجتماعات جنيف نجحت في تدوير زوايا غالبية نقاط الخلاف بين التكتلات، وإعادة دورة الدوحة إلى السكة التي خرجت عنها، ولم تتمكن بالتالي من العودة إليها في كانكون، فإن التعقيدات يمكن أن تبرز، وبحدة، طالما لم تُحسم «قضية الأرقام». الأمر الذي لا يعتبره الممثلون للتكتلات الأساسية بمثابة عقبة، وأن الوقت، من الآن وحتى ديسمبر/ كانون الأول 2005، موعد انعقاد الدورة المقبلة في هونغ كونغ، أكثر من كافٍ لمعالجة الملفات العالقة والاتفاق على تحديد الأرقام، بما فيها التي تخصصها الدول الغنية لدعم صادراتها الزراعية (88 مليار يورو بالنسبة إلى أوروبا و72 مليار دولار للولايات المتحدة).
ملء الفراغات وتبديد الغموض
لم يمنع الحديث عن «الاتفاق التاريخي» المحللين الاقتصاديين الموجودين في جنيف من اعتباره «اتفاق واجهة»، مخرج، حتى الآن. ذلك، كون النتيجة الأبرز التي تم التوصل إليها تكمن في وضع حد لدوامة الفشل، بدءاً من سياتل، مروراً بالدوحة، وانتهاء بكانكون، والتي جمّدت الآلية المخصصة لتحرير التجارة العالمية. على أية حال، يُفضل هؤلاء المحللون الحكم على دورة جنيف من زاوية موضوعية، ترتكز على سلسلة من الفرضيات الآتية، إذا كان الاتفاق الهادف إلى التخلي عن سياسات دعم الصادرات من قبل الدول الغنية تم التوصل إليه، وإذا كان تحرير المبادلات الصناعية والخدمات تمت الموافقة عليه، على الأقل من جانب هذه البلدان، فإن الأجندة والآليات تبقى غامضة. الشيء نفسه ينطبق على اتفاق الولايات المتحدة والدول الإفريقية بشأن ملف القطن، المدعوم بقوة في هذه المرحلة لأسباب تتعلق بالانتخابات الرئاسية.
لكن، في المقابل تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الأميركي جورج بوش أعلن في خطاب ألقاه في الثالث عشر من يوليو/ تموز الماضي، بحضور عدد من سفراء الدول الإفريقية وأعضاء في حكومته وبرلمانيين، إصدار قانون يوسع بموجبه إطار القانون المتعلق «بالنمو والإمكانات الاقتصادية في إفريقيا»، المعروف باسم «أجوا 3 AGOA 3». بفضل هذه الصيغة من التعاون، زادت الصادرات الإفريقية لأميركا بنسبة 55 في المئة في العام الماضي، في حين ارتفع حجم صادرات الشركات الأميركية باتجاه القارة السوداء بـ 15 في المئة، ما قيمته 7 مليارات دولار، ما يعني أن التباين الأميركي - الإفريقي حول ملف القطن، يمكن إيجاد مخرج له مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية.
باختصار، وإذا ما أخذنا في الاعتبار وجهة نظر رئيس الجولة الحالية، التايلندي سوبانثاي بانيشباكدي القائلة إن الاتفاق يجب أن يتم إبرامه في مستقبل قريب، إذا أمكن قبل القمة المقبلة، المقررة في ديسمبر 2005 بهونغ كونغ، فإنه يجب على الأطراف الرئيسية أن تملأ الفراغات الباقية في مشروع الاتفاق النهائي. كذلك، أن تحدد النقاط التي لايزال يكتنفها الغموض بهدف التوصل إلى تفاهم نهائي. ما يراه بعض الخبراء صعباً. إذا يكفي، بحسب رأيهم، ملاحظة التردد الفرنسي، البعيد كل البعد عن الكره المتبادل بين الرئيس جاك شيراك شخصياً والمفوض الأوروبي للتجارة باسكال لامي، وتفيد التقارير التي أعدتها وزارة الخارجية الفرنسية، بأن الوقت يلعب لصالح باريس، الأمر الذي سيعزز مواقعها يدفع بها إلى انتزاع بعض التنازلات من التكتلات الأخرى، في طليعتها الولايات المتحدة. ويستند بعض هذه التقارير إلى انتهاء ولاية المفوضين الأوروبيين باسكال لامي، والمشرف على الملف الزراعي فرانز فيشر الذي بحسب قول الفرنسيين، قدم تنازلات أكثر مما هو متوقع ومفترض. كما ويراهن هؤلاء على انشغال الأميركي روبرت زوليلك، في فترة مجيء طاقم المفوضية الأوروبية الجديد، في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، في الانتخابات الأميركية. وبالتالي على عدم قدرة واشنطن على توقيع أي اتفاق لا يُرضي الناخبين من المزارعين. كما أن نجاح المرشح الديمقراطي جون كيري، من شأنه أن يجمّد العملية لعدة أشهر، ما سيؤخر المفاوضات المقبلة.
النقاط الحساسة
في النص المؤلف من 20 صفحة، التي يتكون منها «الاتفاق - الإطار»، فإن الملحق «أ» المتعلق بالزراعة يلزم الموقعين على العمل للإلغاء الموازي لجميع أشكال دعم الصادرات. مطلب تقدمت به بإلحاح الدول النامية التي لا يمكنها الوقوف بوجه صادرات الدول الغنية الرخيصة. وفيما يختص بالمنتجات «الحساسة» للدول المتقدمة، أي التي تريد الحكومات حمايتها نظراً إلى اعتبارات اقتصادية أو اجتماعية مهمة، فإن الاتفاق يلحظ أنه يمكن للأعضاء تحديد عدد مناسب للتفاوض بشأنه، من الرسوم المعتبرة بالحساسة نظراً للتعهدات الموجودة حيال هذه البضائع. لكن أبعاد هذه الموضوعات الحساسة تبقى محكومة بالفقرة 34 التي تلحظ بدورها خفض الحمايات لهذه المنتجات. جانب انتقده اليابانيون في جنيف بشكل غير علني. ما يعني، أنه لاتزال هناك نقاط لم يتم حسمها بين الأطراف.
فإذا كانت منظمة التجارة الدولية حددت المبادئ والآليات المتعلقة بأبرز نقاط الاتفاق، مثل المنافسة في التصدير ودخول الأسواق والدعم الداخلي وملف القطن، فإنه يجب الآن تحديد الأساسيات وإنهاء الحساسيات. بمعنى، أنه يجب على الأعضاء أن يحددوا الأرقام والتواريخ وإعلان آليات التطبيق التي لم تَرِد في البروتوكول الموقع عليه. بالنسبة إلى الجوانب الثلاثة المرتبطة بالملف الزراعي، تشدد فرنسا على ألا يعالج كل ملف بمعزل عن الآخر. إلا أن ذلك لا يلغي الحقيقة وهي أن النهاية المرتقبة لدعم الصادرات أصبحت في حكم المنتهية والمقبولة من قبل المزارعين أنفسهم. كما أن إعادة النظر في التوازن بين الشمال والجنوب، دخل مرحلة البحث الجدي، فتجربة جنيف أكدت أن الرباعية المؤلفة من كل من الولايات المتحدة، أوروبا واليابان وكندا، لم تعد تشكل تكتلاً، فالدول العشرون، التي تضم بعض الدول الناشئة مثل البرازيل والهند، باتت تشكل جزءاً من هذه الدائرة الموسعة.
وسيُظهر المستقبل فيما إذا كانت البلدان النامية الأكثر فقراً ستجد موقعها ضمن الصيغة الجديدة، الدول التسعين، أم إنها ستضطر إلى إيداع مصالحها عهدة مجموعة العشرين. مع ذلك، وعلى رغم الصعوبات التي تلوح في الأفق، يمكن القول إن علاقات الشمال والجنوب بدأت تسير باتجاه تصحيح التوازن المختل منذ زمن
العدد 702 - السبت 07 أغسطس 2004م الموافق 20 جمادى الآخرة 1425هـ