يرتبط الوجود العراقي في سورية بحدوث اختلالات في العلاقات التقليدية بين النظامين الحاكمين في دمشق وبغداد، والتي كان طابعها العام اقامة العزلة بين مواطني البلدين بسبب سيطرة النزاع بين السلطتين الحاكمتين منذ قيام النظام الحديث في العراق وسورية نتيجة الاختلافات السياسية، والتي يمكن القول، ان ابرز تعبيراتها ارتباط السلطة الملكية في العراق حتى العام 1958 بالسياسة البريطانية، التي كان محورها في شرق المتوسط العراق والاردن، فيما كان لسلطة الجمهورية في سورية بعد استقلالها العام 1946 سياسة مختلفة، دفعت بها الى اتجاه يناقض السياسة البريطانية، يجمعها الى الدولة المصرية في نظامها الملكي قبل العام 1952 ومع نظامها الجمهوري بعد ذلك التاريخ.
ولم تتغير قاعدة علاقات القطيعة العراقية - السورية بين السلطتين أو في المستوى الشعبي، الا لفترات محدودة، عرفت تقارباً سياسياً ظرفياً بين دمشق وبغداد، كما حدث لعدة اشهر من العام 1963 عندما استلم زمام السلطة في دمشق وبغداد جناحان من حزب البعث العربي الاشتراكي، ما لبثا أن دخلا صراعاً عنيفاً بينهما بعد أشهر قليلة، وهي حال مماثلة لشهر عسل في العلاقات السورية - العراقية العام 1980، عندما توصل البلدان الى «ميثاق العمل القومي» الذي انتهى بتجديد القطيعة.
عراقيو الثمانينات في سورية
في الحالات القليلة والاستثنائية التي كانت تتحسن العلاقات بين سلطات دمشق وبغداد، كان السوريون والعراقيون يعبرون الحدود كل في الاتجاه الآخر، وغالباً ما كان هؤلاء يسارعون الى العودة الى بلدهم عندما تستعيد علاقات «الاخوة الاعداء» طبيعتها الصراعية.
غير أن هذه القاعدة شهدت تبدلاً في النصف الأول من الثمانينات، إذ اندفعت أعداد كبيرة من العراقيين الى سورية، أولهم عراقيون كانوا يقيمون في لبنان وتجمعوا فيها منذ بداية السبعينات، عاشت غالبيتهم مع الفلسطينيين وخصوصاً في بيروت الغربية وفي الجنوب، ثم اضطر القسم الاكبر منهم إلى المغادرة مع خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إثر الغزو الاسرائيلي للبنان في صيف العام 1982، فاتجه الى دمشق والبعض منهم اختار الاقامة في مناطق سورية اخرى.
والقسم الثاني من العراقيين الذين وفدوا الى سورية في الثمانينات، جاء أغلبه من العراق، بعض هؤلاء جاء الى سورية مباشرة عبر الخط الطويل من الحدود السورية العراقية، والبعض الآخر جاء من خلال بلد ثالث، وخصوصاً عبر ايران التي لجأ اليها كثير من العراقيين إبان حرب السنوات الثماني العراقية - الايرانية، التي دفعت إضافة الى سياسات النظام السابق مئات الآلاف من العراقيين خارج وطنهم.
وإذا كان القسم الاول من العراقيين الذين وفدوا الى سورية غالبية من المثقفين والكتاب والمشتغلين في الاعلام والثقافة والفنون، فإن القسم الثاني كان جله من رجال الدين ومن اناس عاديين وبسطاء، فروا من دمار الحرب وعسف النظام مثل غالبية اخوانهم في القسم الاول، وكان في القاسم المشترك وجود قيادات للجماعات السياسية العراقية بين الوافدين بينهم قيادات حزب البعث والناصريين من القوميين، اضافة الى القيادات الشيوعية واليسارية وفيهم قيادات الحزب الشيوعي العراقي، وكان بين قيادات التيار الاسلامي قيادات المجلس الاعلى للثورة الاسلامية، وحزب الدعوة.
وجنباً الى جنب قيادات التيارات الرئيسة القومية واليسارية والاسلامية التي كانت موجودة في سورية، اقامت في دمشق قيادات الاقليات القومية العراقية من الاكراد والتركمان والاشوريين، ومنها قيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الديمقراطي الكردستاني الطالباني، والاتحاد الاسلامي لتركمان العراق، والجبهة التركمانية في العراق، والحركة الاشورية.
وانضم الى القيادات السياسية التي اقامت في سورية مثقفون وكتاب ومفكرون عراقيون كثيرون من مختلف الاتجاهات، بينهم رجل الدين والشاعر مصطفى جمال الدين والشاعر محمد مهدي الجواهري، والمفكر هادي العلوي وشقيقه الكاتب حسن العلوي. وعبّر ثقل الحضور الثقافي والاعلامي العراقي في دمشق عن نفسه في الانشطة الثقافية التي كان يقيم بعضها «البيت العراقي»؛ وفي تأسيس عدد من دور نشر عراقية، اضافة الى عدد كبير من الصحف والمجلات العراقية التي كانت تصدر أو تحرّر في دمشق، وبينها مجلتا المدى والنافذة، وصحف بغداد والمؤتمر ونداء الرافدين، وكلها تضاف الى مساهمة كثير من العراقيين بالكتابة والنشر في الصحافة السورية وفي الصحافة الفلسطينية، التي انتقلت الى دمشق بعد اجتياح بيروت 1982.
غير أن رجال السياسة والمثقفين العراقيين، لم يكونوا وحدهم في سورية خلال عقد الثمانينات، بل كان الى جانبهم رجال دين ورجال أعمال وتجار وأناس عاديون، تمركز القسم الرئيس منهم في دمشق وخصوصاً في بلدة السيدة زينب (ع) أو في أحياء دمشق، ولاسيما في حي الامين وفي مساكن برزة وفي حي ركن الدين. وفيما كان رجال الاعمال والتجار يقومون بنشاطاتهم تنقلاً بين سورية ولبنان، كان رجال الدين الشيعة من العراقيين ينتقلون بين دمشق وطهران، فيما اندمج العاديون من العراقيين في انشطة الحياة السورية المختلفة.
ولم يكن هناك احصاء مستقر وواضح للعراقيين في سورية بسبب حركيتهم وتنقلهم من والى سورية، لكن التقديرات ذهبت إلى القول، ان ذروة الوجود العراقي في الثمانينات، اوصلت اعدادهم الى نحو نصف مليون نسمة. وقد تناقص هذا الرقم بصورة متسارعة خلال التسعينات بسبب هجرة العراقيين، والتي غالباً ما كانت تتم عبر لبنان أو عبر تركيا، إذ تتلقفهم عصابات تهريب الاشخاص لتنقلهم الى اوروبا او الى بلدان في آسيا واستراليا، وهي العمليات التي كشفت بعض مساراتها «قوارب الموت» في بحر ايجه وقرب السواحل الايطالية.
وكانت هجرة عموم العراقيين من سورية، ناتجة عن صعوبة الظروف المعاشية، وفقدان الامل في المستقبل وعدم وجود حلول حقيقية لمشكلاتهم واوضاع عائلاتهم ولاسيما بعد الحرب الدولية على العراق في العام 1991، والتي ضاعفت من خروج العراقيين من بلادهم. وقسم منهم جاء الى سورية باعتبارها محطة الى المهجر، وانطبق هذا الامر على النخبة العراقية من كتاب وصحافيين وفنانين، ثم زاد الى اسباب مغادرة دمشق بالنسبة إلى رجال السياسة من العراقيين، افتراقات الموقف السياسي لبعضهم عن مواقف سورية بعد الحرب، واعلان المنطقة الآمنة في شمال العراق التي غدت ملاذاً آمناً لبعض العراقيين ولاسيما الاكراد، وتزايدت الافتراقات بعد التقارب السوري - العراقي اعتباراً من العام 1997، وتحسن العلاقات السورية - العراقية، ما جعل معارضي النظام الحاكم في بغداد يغرقون في مخاوفهم، وغادر كثير منهم في ظل اجراءات ادارية سورية تتعلق باقامة العرب والاجانب، رأى البعض انها موجهة إلى العراقيين بصورة خاصة لتقيد اقامتهم في سورية.
لقد صار الوجود العراقي في سورية في العام الذي سبق الحرب الاخيرة على العراق 2003 في ادنى تقديراته خلال العقدين الاخيرين، اذ لم يعد يقيم في سورية من العراقيين سوى الذين ربطوا حياتهم بالواقع السوري وتأقلموا معه، وقليل من رجال السياسة والثقافة اضافة الى زوار الاماكن الدينية من الشيعة العراقيين، وبعض عملاء النظام الحاكم في بغداد الذين كانوا يترصدون حركة من تبقى من العراقيين في سورية.
عراقيو الحرب وما بعدها
غير أنه ومع تصاعد طبول الحرب الاميركية - البريطانية على العراق بداية العام 2002، في ظل تأكيدات ان الحرب واقعة لا محالة، اخذت اعداد العراقيين تتزايد مجدداً في سورية، وبدت الصورة واضحة في دمشق وفي السيدة زينب ذات الاهمية الدينية، والتي اكتظت بجمهور من الهاربين من حرب بدت نتائجها شبه مؤكدة. وكان للقادمين العراقيين هذه المرة ملامح مختلفة عن عراقيي الثمانينات. ففي هذه المرة، جاء العراقيون مع عوائلهم، وكانوا أناساً عاديين، ليسوا من رجال السياسة ولا من المثقفين والكتاب، لكن غالبيتهم من الفئات الميسورة الباحثة عن امان هرباً من مخاوف دمارات الحرب.
وجاء اندلاع الحرب في أبريل/نيسان العام 2003، ليزيد اعداد القادمين العراقيين الى سورية، فكان مئات أو آلاف يعبرون كل يوم الحدود الى دمشق، وآخرون الى المناطق الشرقية والشمالية الشرقية في دير الزور والحسكة والقامشلي، إذ يجد عراقيون امتدادات اجتماعية عائلية لهم، تشكل سوراً لهم وسنداً في محنتهم.
ثم زادت النتائج الكارثية للحرب الاميركية - البريطانية بما حملته من قتل ودمار من تدفق العراقيين على سورية، وانضوى في عداد هؤلاء انصار النظام المنهار وبعض اركانه، لكن الاستحقاقات السياسية لوجود الاخيرين في سورية، دفعت السلطات السورية لاعادتهم الى العراق ومنع غيرهم من المجيء باعلان اغلاق الحدود السورية - العراقية بعد بدء الحرب بقليل.
لقد تكوّنت صورة جديدة للعراقيين في سورية بعد العام الأول على الاحتلال، أساسها ما حمله الاحتلال من نتائج سياسية وأمنية واجتماعية. ففي المقام الاول صار وجود السياسيين العراقيين في سورية مؤقتاً وطارئاً مهمته في الغالبية مقابلة المسئولين السوريين والتشاور معهم، او قضاء ايام مع عائلاتهم التي مازال بعضها هنا نتيجة ترديات الاوضاع الامنية في العراق.
وهناك قلة عراقية، تتابع اصدار صحيفتين في دمشق، ومجموعات قليلة من رجال الدين الشيعة تقيم في حي السيدة زينب، لكن هؤلاء لا يشكلون الا اعداداً قليلة من عراقيين يفدون بمعدل ثلاثة آلاف شخص يومياً، بحسب أحد ضباط الحدود السورية - العراقية، ما رفع عدد العراقيين في سورية حالياً الى نحو مئتي الف نسمة.
قسم من العراقيين في سورية، يشتغلون في التجارة، يتوزعون بحسب اعمالهم في دمشق وغيرها من المدن السورية، ويقدر عدد هؤلاء ممن يقيمون في طرطوس ثاني الموانئ البحرية بنحو عشرة آلاف شخص، يتابع غالبيتهم بضائع، تأتي عبر البحر لنقلها الى العراق، وترك هؤلاء بصمتهم الثقيلة على مدينة صغيرة ورتيبة، وكان لحضورهم هناك أثر في رفع أجور المساكن وكلف الخدمات، وادى وجودهم هناك الى امتلاء الفنادق القليلة في المدينة، والضغط على خدماتها السياحية من المطاعم والملاهي، وفي الاخيرة يصرف التجار العراقيون هناك رزماً من العملات كل ليلة.
وعلى رغم وجود تجار عراقيين في دمشق يماثلون اقرانهم الموجودين في طرطوس، الا ان وجودهم في دمشق غير بارز بسبب اتساع المدينة وضخامة عدد سكانها، لكن وجود العراقيين ملموس في المدينة وريفها، إذ ينتشر العراقيون في احياء الامين والمنطقة الصناعية ومساكن برزة وركن الدين، وكثير منهم يقيم في بلدات تحيط بالمدينة أهمها السيدة زينب وصحنايا وحرنة وقدسيا.
معظم هؤلاء غادروا العراق هرباً من الظروف الأمنية بما فيها من تفجيرات وأعمال عنف، وانتهاكات تقوم بها قوات الاحتلال، وقسم آخر جاء الى سورية نتيجة ترديات الاوضاع الاقتصادية بحثاً عن عمل ومورد لإعالة أسر بعضها جاء مع معيلها، وبعضها الآخر في العراق، يحمل المعيل اليها كل فترة ما يساعدها على استمرار الحياة والذي قد لايكون كثيراً بالنسبة إلى مستويات الدخل في سورية، لكنه كاف لإعالة اسرة في ظروف العراق الحالية. وغالبية العراقيين يعملون في أعمال التجارة الصغيرة من بيع وشراء، وبعضهم في مشاغل الخياطة ومعامل البلاط وفي قطاع الخدمات في المطاعم والفنادق، وهي أعمال ذات دخول منخفضة في الغالب، تجعل كثيرين منهم يشكون من عدم تناسب الدخول مع المصاريف، لاسيما في ضوء ارتفاع اسعار المساكن واجورها في دمشق ومحيطها من البلدات، والتي يعزو الكثير من اصحاب المكاتب العقارية سببها الى اعداد العراقيين المتزايدة في دمشق. وقد وصلت نسبة الارتفاع الى ما بين عشرين وثلاثين بالمئة من الاسعار التي كانت سائدة قبل ستة اشهر، وهذا بعض ما يزيد من صعوبات حياة العراقيين.
خرائب الحرب على العراق، التي جرت على العراقيين نتائج سياسية وامنية واقتصادية، لم تتركهم خارج الترديات الاجتماعية، والتي مدت حضورها الى عراقيي سورية، فدفعت بعضهم الى سلوكيات وممارسات لم يألفها السوريون في المقيمين بينهم من العراقيين، كما في انخراط بعضهم في قضايا تزوير عملات، وقيام آخرين بتبيض اموال، وانخراط نساء بالعمل في الملاهي الليلية، وفتيات يمارسن البغاء، فيما يقوم شبان عراقيون بالتحرش بالنساء كما يقال في مدينة طرطوس الساحلية. وكله بعض من نتائج دمارات الحرب التي اصابت العراق واهله، لكن ذلك كله لم يغير من محبة السوريين للعراقيين وتعاطفهم معهم، كما يقول أحد السوريين
العدد 702 - السبت 07 أغسطس 2004م الموافق 20 جمادى الآخرة 1425هـ