ليس جديدا القول إن المخرج السينمائي المصري داوود عبدالسيد يعد واحدا من روّاد تيار الواقعية السحرية، واستطاع منذ فيلمه التسجيلي الأول «وصية رجل حكيم» العام 1976 أن يمرر شذرات من ذلك التوجه الذي بدأ تصاعده في السينما العربية عموما والمصرية وخصوصا مع بدايات التسعينات من القرن الماضي.
التوقف وبتأمل أمام أهم انجازات عبدالسيد يكشفان عن وعي كبير كرّسه في الكثير من أعماله من خلال توظيفه وانحيازه لعناصر ثلاثة تكاد تسم أعماله ضمن تيار الواقعية السحرية، الأول يمكن تلمسه في البلاغة البصرية التي تكاد تشكل واحدا من المفاصل المهمة في مجمل أعماله، والثاني في لعبة السرد وتداعيه، والثالث يمكن تلمسه في المفاصل الذهنية. ولا يمكن للعنصر الثالث أن يحضر ويتأتى له بشكل يمكن رصده بمعزل عن العنصرين الأولين: البلاغة البصرية، ولعبة السرد وتداعيه.
في «البحث عن سيد مرزوق» يمكن الوقوف وتلمس البلاغة البصرية بشكل جليّ، مع محاولة ايهام يعمد اليها عبدالسيد بتحطيم عنصري الزمان والمكان فيما الأمر خلاف ذلك.
في الفيلم ثمة لعبة متقنة يُعدُّ لها ، ساحتها الحياة... الموت... و(الوجود) على اعتبار ان الاثنين وضمن رؤى دينية وفلسفية يلتقيان مع بعضهما، ويظلان وجودا، فالأخير:الموت، هو الآخر وجود ضمن رؤية دينية بالايمان بأن الموت ليس نهاية مطاف وانما بدايته لحياة وربما حيوات أخرى.
الفيلم لا يتبجح بوجود قصة، كل ما يقودك اليه عبدالسيد هو الكوابيس والأحلام وهذيان واعٍ، وحوار ومشاهد تكاد تكون على انقطاع مع الواقعي الذي تكاد تفتقده العاصمة المصرية القاهرة، ببشرها ومهرجيها وصعاليكها وحاراتها المزدحمة بفسيفساء من التناقضات. ويغلّب المخرج في الفيلم تلك الرؤية الفلسفية العميقة على حساب اقناع ذوي أنصاف البصيرة بوجود فيلم يلعب فيه الدور بشر غير ممسوسين بتلك الكوابيس والأحلام. ولأن الفيلم رؤية للقاهرة في العام 1995، اذ هي باعتبارها عاصمة العرب، تكون محط رحال لكوابيسهم وأحلامهم النادرة في ظل وضع عربي كان يتجه نحو تفاقمه وترديه وانحلاله مع سقوط مدن والنذير بسقوط مدن أخرى في توجه امبريالي ظلت وظيفته ورسالته الكبرى زرع مزيد من تلك الكوابيس واجتثاث مزيد من تلك الأحلام!.
«يوسف» في «البحث عن سيد مرزوق» الذي لعب دوره نور الشريف، جسد الدور والرؤية ببراعة وإنْ لم تخل من تفكيك في بعض مشاهدها، والسبب يكمن في أن شحنة الرؤية تلك كانت أكبر بكثير من امكانات الشريف. ويكشف ذلك مساحة التمطيط والافتعال في بعض المشاهد والحوار.
لم ينفصل عبدالسيد في كل من: «الصعاليك» بطولة نور الشريف ومحمود عبدالعزيز، و«أرض الأحلام» في العام 1993، بطولة فاتن حمامة ويحيى الفخراني، و«سارق الفرح» في العام 1995، و«أرض الخوف» بطولة أحمد زكي و«الكيت كات» في العام 1991 وحتى واحد من آخر أفلامه «مواطن ومخبر وحرامي» في العام 1999، أقول لم ينفصل عبدالسيد عن موضوعة المفاصل الذهنية والبلاغة البصرية ولعبة السرد وتداعيه، مع تيقن من انه نزوع وانحياز الى رؤية كافكا من جهة وسينما سكورسيزي من جهة أخرى.
في فيلم «الكيت كات» الذي يعد واحدا من أفلام تيار السينما الواقعية، ثمة تحطيم لمنطق السرد، وهو تحطيم واع عبر شحنات عالية من السخرية التي يوظفها عبدالسيد في عدد من المشاهد التي تضج بالمفارقات من جهة ولب الواقعي من جهة أخرى.
في «سارق الفرح» يترك عبدالسيد المشاهد بحسب امكاناته في البصيرة والبصر لاكتشاف أنْ لا اهتمام بالحبكة الدرامية في رصد واضح للبسطاء والمهمشين من دون افتتان بالميلودرامية. وفي فيلم «أرض الأحلام» ثمة جرعات من الصدمات والاحباطات، ثمة حلم بالسفر لأميركا... ثمة مأزق الوثيقة الضائعة التي يضيع معها وجود ومعنى وهوية الانسان في بعدها الانساني الملموس... ثمة سحر يفتن به الفخراني المترفين والغارقين في لعبة الليل وشرطه... ولكنه يعجز عن تحقيقه ولو في أدنى درجاته أمام المهمشين الذين يستحيل ظهورهم في هكذا وصفة من الصدمات والاحباطات، لأنهم موغلون فيهما حد التلاشي والغياب. فعدا عن الحلم بالهجرة وضياع ما يدل على الوجود لتحقق ذلك السفر، والسحر ضمن نطاقاته الضيقة في حضرة نساء وليالٍ غاية في الفتور، فتور ذات الأرض بأحلامها المؤجلة بل المعطّلة.
يبقى القول إنه بين كافكا وسكورسيزي والصعاليك ولعبة العواصم والهوية والسحر في الدرجة القصوى من بداهته في ظل تلاشٍ على مستوى الوجود، وكذلك بين حزمة كبيرة من الاحباطات، تحضر الرؤية الفلسفية ويحضر الوجود ضمن بعدين يبدوان متناقضين، ليتأكد انكسار وتهشم منطق السرد في اشتغالات داوود عبدالسيد عبر شحنات عالية من الكوابيس ومحاولة نفخ الروح في حزمة مهملة من الأحلام المؤجلة /المعطلة
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 702 - السبت 07 أغسطس 2004م الموافق 20 جمادى الآخرة 1425هـ