كثير من الناس يعيشون ويزورون بريطانيا ولكنهم لا يعرفون سر قوتها خلال القرون الماضية. في اعتقادي إن أهم عنصر لقوتها هو إيمانها بحرية التعبير عن الرأي، فهي الدولة التي لديها أقدم قانون يحمي حرية الرأي صدر العام 1695م... هذا القانون عبر ومايزال يعبر عن سر قوة هذا البلد الذي نعلم عن آثاره أكثر مما نعلم عن أسراره. ولحرية التعبير في بريطانيا رموزها في كل زمان، ومن تلك الرموز الصحافي «بول فوت» الذي توفي الشهر الماضي عن عمر ناهز 66 عاماً.
تعرفت على «فوت» أثناء نشاطي في المعارضة في التسعينات، وألقى علينا ذات مرة محاضرة ألهبت مشاعر الحاضرين لما احتوته من خبرات قيمة جداً في مجال عمله، إذ كان يعمل - حتى وفاته - كاتباً للأعمدة ومحرراً في المجلة الأسبوعية الساخرة «Private Eye» والتي عمل فيها منذ الستينات.
«فوت» يساري - ليبرالي التوجه، وهو من عائلة ثرية جداً ووالده كان «اللورد كارادون» الذي مثل بريطانيا في الستينات وبداية السبعينات عندما تخلت بلاده عن الكثير من المستعمرات والمحميات، وكتب (والده) شعراً بالانجليزية عن البحرين وألقاه في «مجلس الأمن» في مايو/ آيار 1970 بعد الانتهاء من تقرير مصير البحرين وإنهاء مطالبة الشاه ببلادنا.
«فوت» عاش مع والده في الأوساط الدبلوماسية، وكثير من أفراد أسرته كانوا من «النبلاء» وأعضاء مجلس اللوردات وقياديين في الأحزاب السياسية التي حكمت بريطانيا، وكان بإمكانه أن يكون مثل أي فرد في أسرته، دبلوماسياً أو سياسياً أو ثرياً مرفهاً، ولكنه - وكما قال في محاضرته لنا في منتصف التسعينات - آمن «بقدسية الكلمة وحريتها» وأمتهن ما يناسبه. أشخاص مثل «فوت» يوجدون بكثرة في بريطانيا وهم «فوق الرشوة» ولا يستطيع أحد شراؤهم، بل إن السياسيين يخافون منهم لعلمهم بما يملكون من سلطان على الضمير البريطاني (الرأي العام).
عندما التقيناه كان قد بدأ سلسلة مقالات يفضح فيها عدداً من أعضاء البرلمان البريطاني الذين كانوا يأتون إلى البحرين ضمن برنامج تعده احدى المؤسسات التي تعيش (ومازالت) من المال العام البحريني، ولكنها كانت (ومازالت) تضحك على البحرينيين وتحاول الضحك على البريطانيين أيضا... غير أن ذلك غير ممكن، لأن هناك صحافيين من أمثال «بول فوت» الذي لم يكن بحاجة إلى المال، ولا يغريه الجاه أو الثروة في مقابل قول الحقيقة.
طوال فترة حياته كان يدافع عن ضحايا القمع والظلم، ويكتب ضد استعمار الشعوب وضد الاستهانة بقدراتها، وهي كلمات تصدر من شخص - كما قال - عاش طفولته مع والده «الذي كان ينزل العلم البريطاني» من الدول التي حصلت على استقلالها في تلك السنوات. وعُرف عنه أنه المناصر لكل الذين حُكم عليهم في بريطانيا بعد محاكمات غير عادلة، وهناك الكثير ممن أفرج عنهم بعد إعادة محاكمتهم وذلك بفضل ما كان يكتبه عنهم. الأمر الجميل في عمل «فوت» هو الطرافة، فهو صحافي في المجلة الساخرة التي تكتب بأسلوب السخرية من بدايتها حتى نهايتها، وحديثه ممتع جداً وعندما ألقى علينا محاضرة كانت القاعة تنفجر من الضحك بين فترة وأخرى لما كان يقوله...
حياته كانت مليئة بالعمل الجاد ولكنه طريف ايضاً، وهذه نعمة الحياة التي يمكن تحويل البائس منها إلى منحى يسعد الإنسان، وهو كان يجهد «فوت» من اجله، لكن وفي الوقت ذاته يبتسم ويضحك على تفاهات الظالمين والفاسدين والممسكين بزمام الأمور من دون ان يكونوا مؤهلين.
أشخاص كثيرون تعلمت منهم معنى حرية الكلمة وقدسيتها، ومن بينهم هذا الرجل الذي رحل عن دنياه سعيداً بما قدمه لكل طالب حق، ولم تنل منه الثروة ولم ينهزم أمام مغريات الدنيا في مقابل التنازل عما يؤمن به
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 702 - السبت 07 أغسطس 2004م الموافق 20 جمادى الآخرة 1425هـ