دعا أستاذ الاجتماع في جامعة البحرين باقر النجار إلى إحداث «تغير سياسي أكبر» في الثقافة السياسية السائدة، عبر «دفع وجوه ورموز سياسية جديدة وشابة، كما فعل حزب العمال البريطاني عندما سلم القيادة إلى طوني بلير».
واعتبر النجار - في لقاء مع «الوسط» تنشر حلقته الثانية اليوم، وكانت الحلقة الأولى منه نشرت أمس - أن البلد «مازالت تعيش مقولات السبعينات بفعل استمرارية وسطوة رموز هذه الحقبة في الألفية الجديدة»،
ولاحظ أن تحديث البنية الأساسية في البحرين لم تواكبه تغيرات مهمة على الصعد السياسية، وهو الأمر الذي جاء ببعض المصاحبات السياسية والاجتماعية على المجتمع، مشيرا إلى أن «المعارضة في عمومها إصلاحية، واستطاعت أن تكيف نفسها إلى حد مهم في الفضاء السياسي الداخلي القائم». موضحا أن النظام دخل تجربة مهمة، «ليختبر قدرته هو أولا على التعاطي مع هذه القوى، وليضع صمامات أمان حتى لا تكرر أخطاء التجربة السابقة، لذلك كان على المعارضة المؤثرة أن تتفاعل مع التجربة من الداخل».
وهنا الحلقة الثانية من حديث النجار:
في أي مجتمع من المجتمعات التي تعيش حالاً انتقالية في تحولها السياسي نحو الإصلاح، يواجه بمصفوفة كبيرة أو صغيرة من المعوقات، بعضها يأتي من داخل النظام وبعضها الآخر يأتي من داخل المجتمع ومن داخل المعارضة.
إذا أخذنا البحرين نموذجا، فان ما يجب أن نعرفه هو أن الدولة تشكلت على مدى زمني أطول من المناطق الأخرى، وتشكلت في إطار ذلك مجموعة من المصالح تخص أفراداً أو جماعات، كما تشكلت في إطار ذلك جماعات ومجموعات، بعض هذه القوى كان دوره فاعلا لإحداث التغيير، كما أن بعض هذه الجماعات والأفراد لعبوا أدوارا مهمة خلال العقود الثلاثة الماضية في تشييد البنية التحتية في المجتمع، فيكون خلل ما هنا أو هناك. وما الانجازات البارزة التي حققتها البحرين على صعيد التنمية الإنسانية إلا نتاج تراكمات المرحلة السابقة.
وعلى رغم ما قد يقال من تدهور في بعض الخدمات الاجتماعية الرسمية، كالصحة والتعليم فإنها في بعضها مازالت قادرة على أن تؤتي بعض الثمار، ولربما يتشكل التحدي في قدرتها على الاستمرار في تقديم هذه الخدمات بجودة أكبر.
مع ذلك فإن ما أود الاشارة اليه ولربما التنويه به هو أن تحديث البنية الأساسية لم يواكبه تغيرات مهمة على الصعد السياسية، أو بالأحرى الولوج في مسار مأسسة صناعة القرار، وهو الأمر الذي جاء ببعض المصاحبات السياسية والاجتماعية على المجتمع.
النقطة الأخرى التي أود الاشارة اليها هي، أنه على المدى الزمني الماضي تشكلت مصالح، بعضها شرعي وبعضها الآخر خلاف ذلك، وتشكلت في هذا الإطار قيم تبشر لهذه المصالح بل تنزع نحو مأسستها أو مصالح تبشر عن قيم. والقيم ليس من السهل أن تتغير بسهولة، لأنها كما الثقافة بحاجة إلى فسحة زمنية حتى تحدث هذه التغيرات فإنه لابد أن تكون هناك رغبة وإرادة في تجاوز ذلك وإقامة مجتمع الانجاز.
دور المجلس التشريعي
وأرى أن المجلس التشريعي وخصوصاً الغرفة المنتخبة، يمكن أن تكون عاملاً أساسيّاً في احداث التغيير، لأنها الجهاز الرقابي والسلطة التشريعية في المجتمع، حتى ضمن الحدود التي عليها خلاف.
طبعاً يعتمد هذا على طبيعة القوى داخل المجلس، وطبيعة الثقافة السياسية التي تحملها، وطبيعة تقاطع مصالحها مع المؤسسة الرسمية وعلاقتها بالمجتمع، كل هذه الأمور تؤثر في الطريقة التي يؤثر بها البرلمان في تعزيز ثقافة الإصلاح وفي سرعة الإتيان بثمارها.
من ناحية أخرى بودي الاشارة إلى مسألة أو قضية أخرى كامنة في مخيلة الناس وبالتالي الإدارة العامة، تتمثل في الخوف من الجديد او عدم القدرة على الاقدام عليه أو الوثوق بنتائجه. فأنت تعرف أول الطرق الجديدة إلا أنك تجهل آخرها، وقد يكون آخرها مفرحاً وجميلاً إلا أنك تتشبث بالقديم لأنه يعطيك حالاً من الاستقرار النفسي، والتشبث بالقديم يعني التشبث بسياق عام قائم تشكلت المصالح والقوة في إطاره.
ونتيجة لذلك تنشأ مقاومة التغيير ويحدث التلكؤ. وهذا بتصوري أمر خاطئ، وقد قاد هذا التلكؤ المنطقة العربية لأن تدخل ألفية جديدة بنظام قديم وأن تخسر المستقبل. ان التغيير والإصلاح قد يعيد توزيع القوة في المجتمع إلا أنه يبقي المجتمع ولا يطيح به، بل انه يزيد من قوته في حين ان اللاتغيير واللعب عليه يفقد المجتمع قوته وديناميكيته ولربما يفقده القدرة على المبادرة.
هل تدعم المعارضة الإصلاحي أم تطيح به؟
ان الدارس لطبيعة الخطاب السياسي للمعارضة، باستثناء جيوب متطرفة هنا أوهناك، يخرج بنتيجة هي ان المعارضة في عمومها إن هي إلا معارضة إصلاحية تحمل في ثقافتها السياسية، كما يحمل النظام، جزءا من ثقافة الماضي أو بعضها وهي الثقافة التي تشكلت في المنافي وتحت الأرض على مدى العقود الخمسة الماضية.
كما ان هذه الجماعات هي أقرب إلى حال الموزاييك السياسي، هي ليست جماعات متآلفة، فيما بينها وذلك لعداء أحيانا يفوق عداء وظلم ذوي القربى. إلا أن هذه المعارضة ومن خلال مراقبتي لها على مدى السنتين الماضيتين، استطاعت أن تكيف نفسها إلى حد مهم للفضاء السياسي والثقافي الداخلي القائم، وهذا لا يعني بالضرورة خلو نشاطاتها من بعض الانفلاتات المتوقعة والطبيعية في المرحلة التي نعيشها. إلا أن ما قد يعوق قدرتها على الاتيان بمزيد من التكيف، أو أن يعطي هذا التكيف مداه، هو طبيعة الثقافة السياسية التي جيء بها من الخارج أو تلك الثقافة التي تشكلت تحت الأرض، وهي ثقافة تبدو راسخة عند البعض، ومن الصعب، حتى من المنظور السوسيولوجي الاجتماعي أن يتم تغييرها بالسرعة التي ينشد النظام أو البعض ذلك.
إلا أنني أعتقد، وهذه فكرة ليست بجديدة، أن المطلوب هو إحداث تغير سياسي أكبر في الثقافة السياسية السائدة، وهذا لا يأتي إلا من خلال وجوه ورموز سياسية جديدة وشابة، تحمل القطيعة مع الماضي، لا تحمل إرث الماضي إلى الحاضر وبالتالي المستقبل. فنحن مازلنا نعيش مقولات السبعينات بفعل استمرارية وسطوة رموز هذه الحقبة في الألفية الجديدة.
وأعتقد أن تجربة حزب العمال البريطاني مهمة وجديرة بالدراسة، فالمجيء بطوني بلير لقيادة الحزب أحدث نقلة مهمة في حياة الحزب، بعد انقطاع عن الحكم دام قرابة خمسة عشر عاما.
فقد قرر الحزب في لحظة ما، كي يخلق حالاً ديناميكية داخله وفي المجتمع، أن يأتي بشاب في منتصف الثلاثينات من العمر ويسلمه القيادة. لنضع كل ما يقال عن حرب العراق ومدى الصواب والخطأ في سياسة بلير إلا أن وجوده أحدث حراكاً سياسيّاً مهمّاً أجبر الأحزاب الأخرى، بما في ذلك المحافظين والليبراليين، على أن يزيدوا من ديناميكية العمل السياسي من خلال رفد هذه التنظيمات بوجوه شابة.
المستقبل لا يمكن أن يحدث إلا باعتمادنا على الشباب، ومن دون ذلك سنعيش كما تعيش كثير من الأنظمة العربية في أروقة الكهولة.
انظر إلى طبيعة الخطاب السياسي السائد عند بعض القوى والجماعات انه خطاب السبعينات، نحن بحاجة إلى خطاب جديد نتجاوز به مآزق الحاضر وهذا لا يتأتى الا بالوجوه الجديدة والشابة، وقد أستدرك هنا وأقول ان هناك محاولات على كثير من الصعد والمستويات لإعادة انتاج خطاب الماضي بثياب جديدة.
جزء من النقد الغربي للأنظمة العربية، هو أن العمل السياسي في المنطقة العربية يكاد أن يحتكر من قبل طبقة سياسية معينة. هذه الطبقة في كثير من الدول عمر الغالبية العظمى منها لا يقل عن السبعين عاماً، انظر إلى أعمار وزراء الحكومة المصرية السابقة، جلهم فوق السبعين وبعضهم قد تجاوز الثمانيين من العمر.
لا يمكن أن نتجاوز معضل تكلس العمل السياسي في المنطقة العربية إلا بالاتيان بالوجوه الجديدة والشابة، المستقبل يصنعه الشباب. لنعطِ هذا الجيل فرصة وبعد ذلك نحكم عليه.
المشكل الدستوري والمقاطعة
تسألني عن المشكل الدستوري والمقاطعة، وما إذا كان لها تأثير إيجابي أو سلبي على التحولات السياسية. في الواقع، إن ظاهرة الاختلاف ليست ظاهرة سلبية، وإنما هي تعبر عن حيوية المجتمع وقواه المختلفة، على رغم أنني أجد في قرار المقاطعة خطأ تاريخياً. ومع ذلك فاني أعتقد أن من المهم النظر إلى التغيرات السياسية التي حدثت في البحرين مطلع الألفية الحالية في سياقها المحلي والإقليمي والعالمي.
البحرين واحدة من الدول القليلة التي بها قوى سياسية فاعلة، دخلت هذه القوى والتنظيمات السياسية، بشكل أو بآخر، في صراع مع مؤسسة الحكم القائمة وعجزت عن تحقيق أهدافها بالعنف تارة والشحن تارة أخرى.
كما اعتقد أن النظام وصل إلى قناعة بأنه بدل الدخول في صراع مع هذه القوى قد يكلف الشيء الكثير للمجتمع والدولة ومن واقع تجاربه السابقة، أي النسق السياسي، فان تحقيق شكل من أشكال المشاركة القابلة للتطور قد يلبي شيئاً من مقاصد النظام السياسي، كما قد يلبي بعضاً من مطالب المعارضة، وتتفاوت هذه القوى من حيث طبيعة الخطاب ومكوناته وعناصره، من هنا تفاوتت ردود فعلها واستجاباتها للمشروع الإصلاحي.
أعتقد أن جلالة الملك تحديداً عندما قرر الدخول في المشروع الإصلاحي، كان أمامه الخبرات السابقة، بما في ذلك التجربة البرلمانية في السبعينات. هل يكرر هذه التجربة أم يحاول ابتداع شيء جديد يتجاوز بها خبرات الماضي.
هذه المسألة قد كانت أحد المحددات المهمة في ولوجه لمشروعه الإصلاحي. لا أشك في جدية المشروع الإصلاحي، قد تحدث بعض التلكؤات، كما تحدث في كثير من التجارب الأخرى، إلا أنه ليس هناك خيار أمامنا جميعا دولة ومجتمعا غير الاستمرار في هذا المشروع.
بالعودة إلى المسألة السابقة، فإن الخبرة التاريخية الماضية، بما حملت من صراع وكلفة اجتماعية وسياسية كبيرة، بالاضافة إلى طبيعة القوى السياسية الموجودة، دفعت النظام إلى أن يدخل في تجربة مهمة، ليختبر بها قدرته هو أولا على التعاطي مع هذه القوى، وليضع صمامات أمان حتى لا تكرر أخطاء التجربة السابقة. لذلك كان من المهم على المعارضة الفاعلة والمؤثرة أن تدخل التجربة، وأن تتفاعل مع التجربة من الداخل.
أحد أسباب عدم فاعلية المجلس التشريعي الحالي هو افتقاره إلى القوة، بسبب غياب القوى المؤثرة عنه. والمعروف أيضا أن مجالس تشريعية قوية تشكل حكومات قوية.
ضمانات عدم التراجع عن التجربة
الديمقراطية عملية وليست هدفاً. العملية قابلة للتغير في اتجهاتها المختلفة، قد تتراجع بعض الشيء وقد تتقدم، كل شيء يعتمد على السياق العام الذي يمكن أن يلعب دور الدافع إلى الأمام أو المتراجع.
انظر إلى الولايات المتحدة الأميركية مرت بها كبوات، فمكارثية الخمسينات قادت إلى تراجع في مساحة الحريات المدنية ثم عادت وازدهرت بعد ذلك، الا أن حوادث 11 سبتمبر/ أيلول قادت مرة أخرى إلى بعض التراجع.
التراجع ليس هو نهاية المطاف وإنما هو منعطف قد يعاد الأمر بعد ذلك إلى صوابه. وعمليات التحديث السياسي تتأثر بالمحيط الجغرافي، كما بالمعطيات الداخلية وطبيعة القوى الفاعلة.
ثم ان السياق التاريخي للأشياء يقول بحتمية التغيير، على رغم حجم التشكيك الذي يطرح. لا خيار أمام أي نظام عربي إلا خيار الدخول في التحديث السياسي، ولا يوجد خيار التراجع، ولا اللعب على هذا الخيار.
المنطقة العربية هي الوحيدة التي بقيت خارج التاريخ. وهي ليست عصية، إنما هناك معطيات داخلية وخارجية وظفتها الدولة العربية لاحتكار السلطة. الدولة العربية تعيش مشكلات بنيوية، لا يمكن تجاوزها إلا بالتغيير.
التغيرات التي تحصل في العراق، والسعودية، والتغيرات المرتقبة في سورية ومصر، وهي دول محورية، ستؤثر بشكل أو بآخر في التجربة المحلية والتجارب الأخرى في إقليم الخليج والمنطقة العربية.
إن ما يحدث في العراق مهم. سقوط النظام السابق، ومجيء نظام ليس منتخباً بعد، لكنه يطرح الشفافية وحرية التعبير والديمقراطية، والضمان الدولي لإحداث ذلك، كلها عوامل مهمة في تطوير التجربة المحلية.
وأعتقد أن أحد مرتكزات الضمان تعود إلى طبيعة القوى السياسية والاجتماعية البحرينية، ان القوى السياسية في البحرين ليست قوى ساكنة، إنما هي قوى ذات حراك وديناميكية. قد نختلف معها على طبيعة الخطاب السياسي السائدة في أوساطها، إلا أنها تحمل شعار الديمقراطية ودعم الإصلاح، حتى لو تساءل البعض عن جدية ذلك.
ولا تنسَ ان قوى ومنظات المجتمع المدني في البحرين، فضلا عن تلك الممثلة للمجتمع السياسي من أحزاب وتجمعات سياسية، هي قوى فاعلة ودافعة للحراك السياسي ومطالبة بإحداث التغييرات في الأداء الرسمي، وهي تمثل إحدى القوى الرقابية على أداء الدولة والسلطة التشريعية، وما الرفض الكاسح لمشروع الراتب التقاعدي للنواب، والنقد اللاذع الذي يوجه إلى بعض أداء الغرفة المنتخبة، كما هو نقدها أو استحسانها لبعض ما يطرح من أفكار ومشروعات، إلا دليل على حراكية المجتمع، وأعتقد أن الدولة تأخذ موقف الرأي العام في الحسبان في صوغها سياساتها الداخلية والخارجية .
وأخيرا فإن جدية القيادة السياسية وعلى رأسها جلالة الملك في إحداث هذه التغييرات ضمانة أخرى مهمة للتطور. على الناس أن يتفاءلوا، بدل سحابات وغمامات السود السائدة في أوساط البعض
العدد 702 - السبت 07 أغسطس 2004م الموافق 20 جمادى الآخرة 1425هـ