أنظر بعين الشك لنوعين من الناس، اولئك الذين لا ترد على لسانهم كلمة: «شكرا» وأولئك الذين لا ينطقون ابدا بكلمة: «آسف».
في الحياة اليومية، يمكن لهذين النوعين من الناس ان يحولوا حياتنا الى جحيم حقيقي. إذا كان رؤساؤكم في العمل من هذين النوعين، فالله معكم. فهؤلاء هم الذين لا يصغون بجدارة.
يحتاج الراشدون إلى الاصغاء أكثر مما يحتاجون للنصيحة، الاطفال يحتاجون إلى الاصغاء ايضا، الازواج فيما بينهم يحتاجون إلى الاصغاء، كل انواع الشجار الذي يمكن ان يقع في أية لحظة لا يتطلب سوى لحظات من الاصغاء كي نتفاداه. قيل ان الاصغاء محبة لكن الاوهام خلقت الاعذار: لا نملك الوقت.
أكثر من عشرين عاما قضيتها في حياتي المهنية والعملية وهاتان المفردتان هما اقل الكلمات ترددا بل لا تترددان ابدا. ففي ثقافتنا العامة وفي اقاصي الوعي السائد لدينا يبدو الاعتذار مقابلا آخر للهزيمة.
هل سمعتم وزارة تعتذر للناس عن خطأ فادح ارتكبته موظفوها؟ فيما مضى، كانت الصيغة الوحيدة التي اعتدنا عليها للاعتذار هي في اعلانات وزارة الاشغال عن اعمال الحفريات، اعلان مقتضب عن اعمال حفريات في هذا الشارع يختتم باعتذار عن أي ازعاج سيتكبده الناس. الآن اختفت هذه الاعلانات ايضا.
في قضية صندوقي التقاعد والتأمينات، دار جدال طويل وعريض استغرقنا شهورا وثبت تقرير لجنة التحقيق اخطاء وتجاوزات قامت الحكومة بمعالجتها، لكن بدلا من ان يسمع المرء كلمة اعتذار بسيطة عن هذه الاخطاء، تحول الامر كله الى «اختبار قوة» بين الحكومة والنواب.
عندما تواجه أية وزارة او دائرة حكومية بالشكوى من التقصير، يبادرون هم الى الشكوى ايضا: الامكانات المحدودة، ضغط العمل، نقص الموظفين، الموازنات. ما هذا؟ وما ذنبنا نحن ان كنتم انتم من دون مستوى هذه المسئولية. لا احد يعتذر بل يسوق ذلك النوع من الاعذار او يعطينا الوعود بالافضل في المستقبل. لكن كلا النوعين من رد الفعل لا يحركهما دافع الاصغاء. فمن يصغي جيدا سيقوم بمحاولة علاج المشكلة والتقصي عن اسبابها او على الاقل سيعتذر ويعد باصلاح الامر، لكن ذلك النوع من رد الفعل لا يشي الا بمحاولة لدرء العبء ليس الا.
لم يسلم القطاع الخاص الذي يعد نفسه لدخول المعترك السياسي الآن من هذا ايضا. هل سمعتم شركة تعتذر عن منتج مطروح في السوق وبه عيوب؟. هل تغير قانون «البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل؟». هل بات المستهلكون يشعرون بشيء من الرضا؟.
لم يتغير الامر كثيرا مع الديمقراطية والمشاركة والتعددية وحرية التعبير. انتخب الناس نوابهم وجاء النواب المنتخبون وهم يحملون مشروعاتهم الجاهزة لانهم يشعرون انهم ليسوا بحاجة إلى الاصغاء بل هم رسل الهداية. مشروعات جاهزة ومكتملة تعيد تذكيرنا دوما بمأساتنا: من يقودنا دوما ليس بحاجة إلى أن يصغي لنا.
في مراحل التحول والانفتاح والديمقراطية، من حق الجميع ان يعلن رأيه، هذا اول الشروط واهمها للحكم على حرية التعبير، لكن هل هو الشرط الاخير او الوحيد؟.
عدم الاصغاء على مستوى الحياة اليومية يعبر عن نفسه في هذه الجرعة الفائقة من الاحباط وانتفاء دوافع التفهم والمسارعة دوما الى الاحكام الجاهزة. هل يتغير الامر كثيرا على مستوى الحياة السياسية او الكيفية التي تدير بها الاجهزة والبيروقراطيين حياتنا؟.
من لا يصغي لا يجد حاجة إلى السؤال، هذا انعكس في غياب البحث العملي والدراسات لدينا. منذ عقود يتحدثون عن البطالة، لكن احدا لم يكلف نفسه دراسة المشكلة بشكل شامل يتعدى الاحصاء اللاهث للاعداد ومستواها التعليمي. واذا شاء الناشطون الادلاء بدلوهم لن يجدوا افضل من بضع عناوين: التحذير من عواقب الخصخصة، اولوية ابناء البلاد في العمل.
لا تحتاج الحكومة إلى السؤال ايضا، فالمسئولون لا يكفون عن اهدائنا البشارات كلما سنحت لهم الفرصة: فرص استثمارية لا حصر لها، مشروعات قادمة في الطريق، فرص عمل، نمو اقتصادي عال، خطط للارتقاء بالاداء على جميع المستويات.
لا احد يصغي، لا الافراد ولا المنظمات ولا الناشطون ولا الحكومة، لا احد ينطق بعبارة اسف على خطأ، ولا احد يتساءل عن هذا الفارق الهائل بين ما نقرأه في الصحف وبين ما نعيشه يوما بيوم
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 701 - الجمعة 06 أغسطس 2004م الموافق 19 جمادى الآخرة 1425هـ