ماذا تقصد الأجهزة الأمنية الأميركية من وراء إعلانها كشف مؤامرة يخطط لها «مسجد السلام» قرب نيويورك لشراء صاروخ أرض - جو لاسقاط طائرات داخل الولايات المتحدة؟
القصد واضح والقصة غريبة ومضحكة. فالمؤامرة كما أعلن عنها مكتب التحقيقات الفيدرالي (اف. بي. آي) مرتبة من قبل الجهاز الأمني. وهي أساساً تقوم على فكرة التوريط. فالجهاز الأمني ارسل أحد المتعاملين معه للاندساس في صفوف المصلين وبدأ تحريضهم ضد الولايات المتحدة، وبدأ تجييش العواطف واستدراج بعض الحمقى والسذج، وبعدها قدم اقتراحات للجهاد، وبعدها طلب من المصلين و«إمام» المسجد المساعدة في التمويل، وأخيراً كشفت «المؤامرة» المرتبة وبدأ التهليل الإعلامي أمام الناخب الأميركي لتأكيد وجود عين ساهرة تحرس أمنه المهدد.
القصة إذاً مختلقة وتقوم على مجموعة عناصر مرتبة تهدف في النهاية إلى تبرير الحروب التي تفتعلها إدارة بوش.
الإعلان عن اكتشاف مؤامرة مسألة مضحكة، ولكنها أيضاً مثيرة للشفقة لأنها توضح مستوى الانحطاط الخلقي الذي وصلت إليه سياسة أكبر دولة عسكرية في العالم. فالمؤامرة المنظمة هي أشبه بقصة بوليسية لا تصلح للتصوير، ولكنها تزيد من كمية القرف والغثيان وغير كافية لتبرير بطولات بوش في العالم.
مع ذلك يبقى السؤال: ماذا تقصد الأجهزة الأمنية الأميركية من وراء اختراع هذه التمثيلية على مسرح نيويورك؟
التبريرات كثيرة وهي إضافة إلى إثارة المزيد من الكراهية للمسلمين في الولايات المتحدة، تريد تغطية فضيحة وزير الأمن طوم ريدج الذي رفع في الأسبوع الماضي التحذير إلى «اللون البرتقالي» بناء على معلومات قديمة اعيد إرسالها إليه على «الانترنت».
المسرحية واضحة، وهي ان وزير الأمن يريد ان يقول إنه لم يخدع، وان إعلان حال اليقظة والاستعداد جاء فعلاً بناء على «معلومات مؤكدة» وليست ناجمة عن خطأ التورط بمعلومات قديمة مضى عليها أكثر من ثلاث سنوات.
هذا جانب من المسرحية. والجوانب الأخرى كثيرة منها إعلان الرئيس الأميركي رفع موازنة الدفاع للعام المقبل إلى 417 مليار دولار وهي الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة. وهذا الإعلان يتطلب تمثيلية مخابراتية تقوم على لعبة التوريط للقول امام الناخب الأميركي إن الإنفاق في الجانب الأمني - الدفاعي لا يذهب هباء بدليل إلقاء القبض على مجموعة حمقى وسذج في «مسجد السلام» كانت تخطط لشراء صاروخ من عميل مزدوج.
هذا النوع من الانحطاط في التفكير السياسي الذي تقوده الإدارة الأميركية الحالية يثير الشفقة ويدل على حال من الارباك ليس في إدارة السياسة الخارجية، بل على احباط في اقناع الناخب بجدوى هذه الحروب «الدونكيشوتية» التي وصلت إلى حد اتباع أساليب بهلوانية ومقرفة. فالإدارة تتظاهر بالغباء والبراءة من كل الحوادث الكارثية التي وقعت في عهدها في وقت تستعد لخوض معركة انتخابية رئاسية صعبة. وبرأي إدارة واشنطن فإن الورقة الرابحة في يد الحزب الجمهوري هي الورقة الأمنية ولذلك تلجأ إلى استخدامها في كل فترة لتخويف الناخب وتوتير اعصابه والضغط على مشاعره حتى لا يفكر بطريقة صحيحة. إلا أن الاستمرار في هذا النوع من الألعاب المخابراتية سيفوت على بوش فرصته الأخيرة للتصحيح، وهي تبدأ بإعادة النظر في الكثير من تلك الإجراءات الأمنية المفتعلة والتفكير مجدداً في سياسة الحروب وقراءة جداوها الاقتصادية والنظر إليها بعقلية نقدية... وهذه الفرصة موجودة قبل عقد الحزب الجمهوري مؤتمره السنوي الذي سيعلن فيه تجديد ثقته بالرئيس بوش كمرشح منافس للحزب الديمقراطي. والفرصة تبدأ قبل المؤتمر لا بعده، وأساسها ينطلق من الاقلاع عن فكرة استخدام الورقة الأمنية ورفعها دائماً لا بتزاز المشاعر وتزوير الحقائق. افراط الإدارة في استخدام «الورقة الأمنية» افقدها الكثير من صدقيتها وأعطى فرصة لمنافس الحزب الجمهوري للسخرية وإعلانه عن وجود «خطة ذكية» لديه لمحاربة «الإرهاب». فالافراط في استخدام ورقة الأمن بدأ يعطي مفعوله العكسي وأخذ يكشف فعلاً عن وجود خيوط مؤامرات تعتمد الحيل السينمائية كما حصل أخيراً مع حمقى «مسجد السلام». فالإدارة ارادت من وراء كشف هذه المؤامرة التغطية على غباء وزير الأمن الأميركي إلا أن الاكثار من « المؤامرات» والايقاع بالسذج في شبكة الأجهزة الأمنية سيعطي مع الأيام مردوده السلبي وسيكون جون كيري هو المستفيد الأكبر من تلك السياسة. وهي سياسة بدأت بمأساة وستنتهي باضحوكة حين ينقلب السحر على الساحر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 701 - الجمعة 06 أغسطس 2004م الموافق 19 جمادى الآخرة 1425هـ