العدد 699 - الأربعاء 04 أغسطس 2004م الموافق 17 جمادى الآخرة 1425هـ

الناقد الأردني محمد عبيداللّه: سلاماً على الحاضر الغائب

يمر العام حزيناً على رحيل العلامة إحسان عباس

قال أحد أبرز الباحثين الاكاديميين الاردنيين محمد عبيد الله ان مرور عام على رحيل احسان عباس، العالم والعَلَم.... الاب والصديق... احسان كان قريب من ارواحنا، في حياته وغيابه... مر عام، ولم نرك... ولم اقل لك وداعا... لم نقل لك وداعا... ربما لانك الغائب الحاضر... المبثوث في ارواحنا... في كلماتنا... في بحثنا عن جدوى الكلمات... وحياة الابداع وحرارته.

الآن استعيد غيابك... فجر الاربعاء 30 يوليو/ تموز العام 2003 صعدت الروح الى بارئها... صعدت رويدا رويدا... ولم تنتبه للفراغ الذي خلفته... للطريق الممتد الى بيتك العمّاني البسيط... الطريق التي لم اعد قادرا على المرور منها... كانت تعني لي ان اراك... تتحاور مع كتبك... تجلس في الشرفة المزهوة بك... فسلاما على شرفتك الوحيدة... سلاما على المقاعد التي لم تلامس منذ عام اصابعك، وحفيف مرورك.

ولف عبيدالله تحديدا 31 يوليو 2003 كان ثمة جثمان صغير... محمول على محفة صغيرة... خفيفا كنت بين ايدي احبائك... مضت المحفة نحو قبر اشبه بقبر معد لجثمان طفل... فهل عدت طفلا بعد ان طوفت في الآفاق... و«رضيت من الغنيمة بالغياب»... كنت ملاكا خفيفا... اختار ان يطير في الأعالي... بعد ما انتشر في الارواح المحيطة به... هنا اذن حللت... في مقبرة نائية ببلدة وادي السير (قرب العاصمة عمّان) في واد على سفح جبل ريفي... ربما يشبه ريف عين غزال، كأنها جنازة الراعي الغريب الذي كفته... وكتبت عنه سيرتك الناقصة... جنازة بسيطة... لا جماهير، ولا موسيقى... لا اكاليل، ولا كلمات تأبين او قصائد رثاء... هي جنازة الطفل ابن عين غزال... لا ضوضاء ولا ضجيج كي ينام... كي يغفو ويحلم هادئا كالملاك.

عين غزال

ولد إحسان عباس كما هو معروف في قرية عين غزال من قرى حيفا العام 1920، وفيها نال تعليمه الاول، ثم كان اول طالب يغادر القرية لاكمال تعليمه في حيفا (وهناك يتعرف على اميل حبيبي الذي ظل يذكر احسان دوما، بما فتح له من آفاق المعرفة والتراث) وانتقل من بعد الى الكلية العربية في القدس، وهي اعلى مستوى تعليمي في فلسطين والاردن في النصف الاول من القرن العشرين، ثم بعد تخرجه فيها عمل معلما في صفد 1941 - 1946.

هذه هي المرحلة الفلسطينية في حياته، قبل ان يغادر وطنه، ولا يتمكن من العودة اليه ابدا، في تلك المرحلة فتكون الركائز الكبرى في شخصيته وثقافته. لكن من أبرز ما فيها تجربته الشعرية التي بددها وضحى بها لاحقا... وهي تبدو تجربة لافتة حين نعود اليها اليوم، اذ تقع ضمن التيار الرومانسي، بل ضمن أفضل نماذجه، ينشد للرعاة وللطبيعة، ويكتب شعرا رعويا مثقفا رؤيويا، متأثرا بصميم التجربة، وبنماذج جديدة من الشعر الانجليزي الرعوي آنذاك، وقد جمع شعره لاحقا العام 1992 بالحاج من اصدقائه وتلاميذه وطبع بعنوان «أزهار برية» طبعة دار الشروق في عمان لتتكشف لمن لا يعرف هذه المرحلة من حياة الراحل تجربة شعرية وملكة إبداعية أصيلة بددها صاحبها اختيارا بعد نكبة 1948، لأن «إحسان» كما يعترف لم يستطع ان يتحول من الذاتي الوجداني الى العام الجماعي أو الوطني... لم يستطع ان يحول تجربته للتعبير عن نكبة وطنه وأهله، فاختار طريق الصمت تعبيرا عن التزامه الذي لا يعرف مناطق الوسط.

عين غزال - التي خرّجت لنا أسماء لامعة تبعت إحسان عباس فيما بعد المرحوم بكر عباس، المترجم والمبدع، فهمي جدعان، الفيلسوف والمفكر ومحمد عصفور، المترجم والناقد - لم تغب أبدا عن قلب ابنها ولا ذاكرته... ويخصها في سيرته بنصيب وافر من التذكار والمحبة، وفي مقدمة «أزهار برية» يكتب عنها «موقعها الجميل على ربوة من ربى الكرمل، تطل على سهل ساحلي يمتد حتى البحر، وتتمتع بطبيعة جميلة تجمع بين الجبال والتلال، والاشجار والكروم والازاهير البرية وانواع المزروعات الشتوية والصيفية، وأي طبيعة الترحيب والاكرام والحفاوة التي اجدها من اهلها الرعاية كلما عدت من المدينة في الاجازات المدرسية والى صداقات حميمية بيني وبين لداتي في مدرسة القرية، والى النُزه التي نقوم بها في المناطق الجبلية و«السهلية» سهراتها في ضوء القمر، والى زيارة القرى المجاورة... كان يحن الى تلك التفاصيل الانسانية البسيطة... على رغم كل ما بلغته من تواصل وتركيب وعلاقات على مدى تجربته الممتدة».

الحقبة المصرية

غادر إحسان عباس، بحسب دراسة عبيدالله - التي كشفتها صحيفة «الرأي» الاردنية وهي تحتفي بأحزان العام الأول - فلسطين العام 1946، لإكمال دراسته في القاهرة، بعدما زودته الكلية العربية بمعارف متنوعة، وبمعرفة جيدة باللغة الانجليزية، إضافة الى حرصه الذاتي على توسيع خبرته وثقافته، ولعله لم يجد في دروس القاهرة الا توسيعا لبعض معارفه ووجوه ثقافته، لكن ما صقل شخصيته بشكل اساسي اولئك الاشخاص الجدد الذين تعرف اليهم، ففتحوا له نوافذ جديدة للمعرفة خارج الدروس الجامعية، كشوقي ضيف واحمد أمين ودينس جونسون ديفز، ثم كان تعرفه الى العلامة محمود محمد شاكر فصلا جديدا في حياته (تعرف اليه العام 1954 ووجد في مجلسه ومكتبته كثيرا مما يبحث عنه، او يفتش عن اجاباته).

ولقد أحب احسان عباس مصر، وظل يزورها ويقضي فيها اجازته في السنوات التالية، كما انه سجل فيها لمرحلة الدكتوراة بعد انهائه درجة الماجستير باشراف شوقي ضيف. وقدم في سيرته «غربة الراعي» شهادات مقتضبة لكنها دالة وصادقة حول اعلام مصر ممن تعرف اليهم وأحبهم.

لقد حلت نكبة فلسطين 1948، والفتى في القاهرة، فانقطع عن أهله الذين عرف فيما بعد انهم لجأوا الى العراق، وانقطع عنه المال الذي يبدو ضروريا لطالب مغترب، لكنه وجد في من حوله اهلا واسرة، فهذا شوقي ضيف استاذه وصديقه يطلب منه كتابا لنشره، ويعطيه مالاً كافياً مكافأة من الناشر، مع انه من جيبه وماله، وكل ذلك لانه يعرف كبرياء الفتى الفلسطيني، ويعرف انه محتاج ولا يستطيع ان يطلب مالا من احد... يسجل إحسان في «غربة الراعي»، هذه الصور الانسانية، التي تشير الى اخلاق جيل الرواد من الاساتذة الكبار... الذين لم يكن التعليم عملا ووظيفة عندهم، وانما كان مهمة انسانية يرعى فيها المعلم تلاميذه... يرعى ارواحهم... ويهتم بحياتهم، ولا يتوقف عمله وواجبه عند قاعة الدرس فحسب.

عشر سنوات في الخرطوم

في العام 1951، انهى احسان عباس دراسته الجامعية الاولى وسجل موضوعه للماجستير، ثم بدأ يبحث عن عمل، ولم يجد ردا الا من كلية غوردون التذكارية (جامعة الخرطوم فيما بعد) وهكذا بدأت حقبته السودانية، ومن هناك ابتدأ انطلاق اسمه في العالم العربي، كما توضحت اهتماماته الموسوعية، وتراكمت انجازاته في كل اتجاه... فقد تمكن خلالها من انهاء دراساته العليا بتفوق، كما انطلق اهتمامه بالتاريخ والتحقيق، والترجمة والنقد ومختلف اشكال التأليف، نجد له في هذه المرحلة مساهمات في المجلات المعروفة في مصر او لبنان (الآداب، الأديب، أبحاث الجامعة الاميركية، الثقافة المصرية، القلم الجديد) التي اصدرها عيسى الناعوري في عمان العام 1952 وراسلها احسان من السودان حتى توقفها.

ويكفي للدلالة على الوعي المتفتح المتألق لهذه الحقبة ان نتذكر حماس احسان عباس للشعر الجديد آنذاك، وكتابته لدراسته المطولة عن عبدالوهاب البياتي التي ظهرت في كتاب العام 1955، وكذلك دراساته عن نازك الملائكة (التجديد في شعر نازك الملائكة) وكذلك ما كتبه عن فدوى طوقان في بداياتها، وكل ذلك كان اقوى سند لتجربة شعر التفعيلة، والاسهام في الدفاع عنه وادخاله الى مساحة الجامعات والى صفحات الدراسات الاصيلة المؤثرة.

وفي حوار أجريته مع الشاعر الراحل عبدالوهاب البياتي العام 1996 صرح البياتي بما تركه كتاب احسان عباس من اثر في شعره وتجربته، ومما قاله: «كان صدور الكتاب في تلك السنوات وانا في بداية حياتي الشعرية حدثا مهما، اذ انه اول كتاب يكتبه عن شاعر وهو لايزال في بداياته، كما انه اول كتاب يكتب عن الشعر الحديث، ومن هنا فان هذا الكتاب كان دعامة كبيرة لحركة الشعر الحديث، وبخاصة ان مؤلفه استاذ موسوعي، خاض بحار التراث والتاريخ والادب... إذ إن احسان عباس ليس ناقدا ادبيا، وحسب، بل انه عالم كبير وموسوعي... ومن هنا فإن شهادته كانت حاسمة وقاصمة لكثير من الادعياء، الذين كانوا يهاجمون الشعر الحديث ويتهمونه بالمروق والخروج على اوزان الخليل»، انتهى كلام البياتي.

هذه الرؤية الطليعية لم تفارقه طيلة حياته، ولعل القراء يذكرون تشجيعه لحركة قصيدة النثر، وامتناعه عن محاربتها او التصريح ضدها، بل على العكس من ذلك، عدها حركة تجديدية مفتوحة على المستقبل، واعتبر ان الشعر العربي يتجه الى التخلي عن الانتظام الذي عرفه في مراحل سابقة.

ربع قرن في بيروت

كانت مرحلة بيروت هي قمة نشاطه وشهرته، إذ انتقل اليها، بعد ان سبقه اسمه عبر المؤثرات والمجلات السائرة... وفيها حقق الموسوعات الكبرى التي تعجز عن نشرها مؤسسات بكاملها... وكان بيته عاصمة للعلم، ولطلاب المعرفة.

في بيروت كانت طاقته وصلت ذراها نشاطا ونضجا، ولم تمض سنوات على اقامته فيها حتى صار اسمه يمثل قمة تطور النقد العربي والدراسات العربية المعاصرة، ومنها انتقل استاذا زائرا في عدد من الجامعات العالمية، وعاش مرحلتها الذهبية التي كانت ايضا المرحلة الفردوسية في حياته، قبل ان تخنقها الحرب الاهلية، وتخنق معها كثيرا من مشروعات احسان عباس وطموحاته التي لا تحد ومن حصاد المرحلة البيروتية نذكر للتمثيل مشروعه المؤثر (تاريخ النقد الادبي عند العرب) الذي فتح بابا واسعا للباحثين، ومازال حتى اليوم افضل مرجع في موضوعه، اذ تمكن بمقدرته وصبره من إعادة بناء الكيان النقدي عند العرب خلال قرابة ثمانية قرون... وقدم منهجا فذا للدراسة التطورية التاريخية للنقد او لغيره من وجوه النشاط الابداعي... كما كان من حصاد بيروت كتابه الشهير عن بدر شاكر السياب، وبه اكتمل انصافه للرواد الثلاثة (البياتي، نازك، السياب) واضاف كتابا مهما لمكتبة الشعر الحديث هو «اتجاهات الشعر العربي المعاصر» ومن دراساته المقارنة كتابه «ملامح يونانية في الادب العربي» واضافة الى التأليف حقق كتبا كبرى منها: «نفح الطيب» للمقرئ (8 مجلدات)، «وفيات الاعيان» لابن خلكان (8 مجلدات)، «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» لابن بسام الشنتريني، (8 مجلدات)، و«رسائل ابن حزم» (4 مجلدات)، «الروض المعطار» لابن عبدالمنعم الحميري، «فوات الوفيات» للكتبي (خمسة اجزاء)، ونحو عشرين كتابا في مجلدات او كتب مفردة، وظهر ايضا نشاطه في الترجمة إذ صدرت بترجمته الرواية العالمية «موبي ديك» لهنري ميلغل، وترجمات لكتب من مدارس النقد الجديد مثل كتاب ستانلي هايمن «النقد الادبي ومدارسه الحديثة» بالاشتراك مع محمد يوسف نجم وكتب في الحضارة مثل يقظة العرب لجورج انطونيوس (بالاشتراك مع ناصر الدين الاسد) وكتب اخرى كثيرة.

المرحلة العمّانية

في العام 1986، انتقل احسان عباس الى عمان... بعد تقاعده من الجامعة الاميركية في بيروت، وقد تصادف ان دعاه الامير الحسن بن طلال الى الانتقال الى عمّان، والاسهام في تأسيس مشروع كتابة تاريخ بلاد الشام، ولاقت دعوة الأمير هوى في نفس احسان... وخصوصا انه سيعود إلى التاريخ من جديد... وسيجد فرصة لتجديد دراساته واهتماماته التي بدأت في الخرطوم في بداية الخمسينات... وفي مرحلة عمان يحل استاذ شرف في الجامعة الاردنية، وتتهيأ الفرصة لابناء جيلي للتتلمذ عليه بعد ان عرفنا نتاجه في مراحلنا الدراسية الاولى، فنجد فيه الاستاذ المحب العطوف حين يتعلق الامر بما هو انساني وروحي، ونجد فيه الشدة والقسوة عندما يتعلق الامر بالعلم ومشاغله... يبدأ معنا من جديد... واعترف في المستوى الشخصي انني تأثرت به الى ابعد حد في طريقته التطبيقية وفي اسلوبه في تحليل النصوص إذ كون في وعينا من جديد معنى النقد ووظيفة الناقد، وهدم ما استقر في نفوسنا من حدود التخصص الضيق، ودفعنا إلى الحلم بالمعرفة الموسوعية التي لا تتهيأ بيسر لاحد... رأينا فيه مثالا نادرا لانسان اختار ان يمنح كل لحظة من عمره للمعرفة والعلم... طموحه ان يقرأ ويكتب وينشر للناس ما كتب... تعامل مع ناشري كتبه بخجل وصداقة محببة، ولم يأخذ من حقوقه الا القليل... وظل دوما حيا كريما معطاء زاهدا... يعطي بلا حساب... لكنه لا يعرف في الحق لومة لائم... يقول رأيه، ويتخذ موقفه ويمضي، ولا يفكر في منفعة او مكسب مادي... ظل مؤمنا بموقع العلم والعالم بعيدا عن الشبهات وبعيدا عن مغريات الدنيا، وبكل اخلاصه ضمن لنفسه موقع الخلود والمحبة الابدية في قلب كل من عرفه، عن قرب، أو بعد، وكان من اولئك الناس الذين لا يملك المرء الا ان يحبهم ويتعلق بهم، وهذا ربما يفسر الاتفاق عليه من الناس على اختلاف ما بينهم من آراء او توجهات ... كان عطاؤه دوما عميقا عاليا في تلك المنطقة المشتركة العالية التي يسعى الجميع الى بلوغها والاقتراب منها.

ولابد ان نذكر بعض حصاد مرحلته العمانية من التأليف، فقد كتب لنا «تاريخ دولة الانباط» ليمثل أهم مرجع تاريخي في الحضارة النبطية حتى اليوم، وكتب عدة مجلدات مهمة ضمن مشروع تاريخ بلاد الشام، ومما يؤسف له انها لم توزع جيدا وربما لاتزال بقية نسخها في مخازن الجامعة الاردنية، وقد ظل حتى ايامه الاخيرة يشعر بالألم إزاء ذلك، فقد بذل جهدا هائلا في سبيل وضعها وتأليفها، من أجل ان تصل الى المهتمين والقراء، وظل يحاول ان يجدد امر توزيع منشورات ذلك المشروع المهم الذي توقف من دون مسوغات واضحة.

كما ترجم وحقق وألف عددا من الكتب المهمة، وكان بيته محطة محببة لاصدقائه وتلاميذه ولضيوف عمان من المثقفين من كل مكان





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً