حين كنا نناقش منذ المقال السابق، حكاية إعادة اختراع مصر الحديثة والديمقراطية، بما في ذلك البدء بإصلاح ديمقراطي، سياسي ودستوري شامل، كسرت واشنطن الحواجز الرسمية، واقتحمت بشكل مباشر وعلني حديث الإصلاح الداخلي...
فعلى مدى الأسبوعين الماضيين، كسرت الإدارة الأميركية وهيئاتها، الحواجز الدبلوماسية العلنية في قضية الإصلاح مرتين، في المرة الأولى جاءت إلى مصر لجنة الحريات الدينية، التي نسميها لجنة التفتيش على الحريات الدينية ومراقبتها وفق المفاهيم الأميركية... فتشت واجتمعت وناقشت والتقت ممثلين ممن تعتبرهم مضطهدين دينياً في مصر، وحددتهم بالأقباط وجماعة الإخوان المسلمين - الذين رفضوا اللجنة ومهمتها - والشيعة والبهائيين وشهود يهود...
ونظن أن لجنة التفتيش الديني خرجت كالعادة بتقرير معروف مسبقاً، يقول إن مصر الرسمية تضطهد هذه الفئات، مثلما خرجت تشيّعها مشاعر شعبية ورسمية واسعة بالرفض، وعدم الرضا عن التدخل السافر في الشئون الداخلية، وهل هناك أوضح من موقف بابا الكنيسة المرقسية البابا شنودة الرافض لاستغلال مسيحيي مصر في لعبة الضغط والابتزاز؟!
في المرة الثانية، وفي بادرة هي الأولى من نوعها، تم ترتيب اجتماع لوزير الخارجية الأميركية كولن باول، خلال زيارته الأسبوع الماضي لمصر، مع ثمانية ممن أسمتهم التصريحات الأميركية ممثلي المجتمع المدني، وناقش معهم خطوات الإصلاح في مصر والمساعدة الأميركية المطلوبة، وعلى رغم أن اثنين من الثمانية يمثلون حزب الوفد المعارض، فإن خمسة آخرين يرتبطون بالحزب الوطني الحاكم، ارتباط عضوية عاملة أو ارتباط انتساب واقتراب...
وبصرف النظر عما دار في هذا الاجتماع الأول من نوعه على هذا المستوى الأميركي، فإن المغزى الأول له هو أن الإدارة الأميركية، قررت وبدأت كسر الحواجز الدبلوماسية، في مناقشة قضايا الإصلاح الداخلي في مصر مع من تراهم مؤهلين لذلك من غير الرسميين، تنفيذاً لما جاءت به وثيقة الإصلاح والمشاركة في التقدم، التي صدرت عن قمة الدول الصناعية الثماني التي اجتمعت في يونيو/ حزيران الماضي بولاية جورجيا الأميركية، وتم اعتمادها فيما بعد في القمة الأوروبية الأميركية بإيرلندا، ثم في قمة حلف الأطلسي في اسطنبول التركية نهاية يونيو الماضي، لتصبح وثيقة ضغط قوية في القبضة الأميركية...
أما المغزى الثاني لهذا الاجتماع، فهو أنه يحمل رسالة إلى الحكومة المصرية، وإلى باقي الحكومات العربية المعنية، رسالة قوية ضاغطة متحدية، تقول إن أميركا والغرب، لن يكتفوا بالحديث مع الحكومات عن ضرورات الإصلاح في المنطقة، وإنما الحديث والتعاون والدعم سيذهب أيضاً إلى منظمات المجتمع المدني، حتى من وراء ظهر الحكومات ورغماً عنها!
وعلى رغم أننا ضد الضغط والابتزاز الأميركي الغربي، لفرض نمط الإصلاح الذي يريده، فإن الواقع يقول إن هذا الضغط أصبح جزءاً من العملية كلها، وخصوصاً نحن ندرك طبيعة العلاقات التي تربط حكوماتنا بأميركا، التي تصل أحياناً إلى حد التبعية والخضوع التام والإسراع بتلبية الأوامر وتفادي النواهي...
لكن معاداتنا لهذا الضغط والابتزاز، يجب ألا يدفعنا إلى مجاراة المحاولات الحكومية للتهرب من الإصلاح، والالتفاف عليه، بل يجب أن يدفعنا إلى تنشيط المبادرات الوطنية المطالبة والساعية إلى الإصلاح الشامل، بيدنا لا بيد أميركا وتحالف المتأمركين العرب. من هذا المنطلق نعود اليوم إلى الفكرة التي طرحناها الأسبوع الماضي، بشأن ضرورة إعادة اختراع مصر الديمقراطية...
ولقد أثارت هذه الدعوة، ردود فعل متباينة، مثل كل فكرة جريئة وصارمة، وسنتجاوز عن الردود العصبية المستشيطة، مثل التي اتهمتنا بالتجديف - أعوذ بالله - بدعوى أننا ندعو إلى اختراع ما اخترعه الله وهو مصر، سنتجاوز لأن هذا الاتهام يعبّر عن قصور في الفهم وتهافت في التفكير!
أما الذي يستحق المناقشة، ويدعو إلى مزيد من الكتابة والتوضيح، فهو السؤال الجدي والعملي... كيف إذاً نعيد اختراع الدولة الحديثة والديمقراطية؟!
وإليكم اجتهادنا المتواضع، الذي نرجو أن يستثير كل اجتهاد آخر...
ننطلق بداية من أرضية واقعية، تقول إن مصر الدولة والمجتمع، في أزمة حقيقية، أزمة اقتصادية اجتماعية مشهودة، بسبب تحول السياسات والاختيارات، وأزمة سياسية فكرية ناتجة عن احتقان وانسداد في شرايين الحوار والحريات وتداول المواقع والسلطات وتبادل الرؤى والأفكار، وأزمة في التعليم الحديث والثقافة المبدعة والإعلام المعلوماتي التنويري، وأزمة حتى في القيادات الجديدة...
وهي حزمة أزمات انعكست على طبيعة العلاقات الداخلية في المجتمع، مثلما انعكست على علاقات مصر ودورها في محيطها العربي القومي، وفي المحيط الدولي الأوسع، ولعل العلاقات المصرية الأميركية، المحكومة منذ نهايات السبعينات بكثير من الحواجز والشروط والمساعدات، تعطي النموذج، ناهيك عن نماذج حقيقة التأثير والدور المصري في فلسطين والعراق والسودان وغيرها، وهو دور أصبح خلف أدوار أخرى كثيرة!
وهذه أوضاع وأزمات احتكمت وتحكمت، حتى كادت تخنق أم الدنيا وتحوّلها إلى أضعف الدنيا، الأمر الذي يستدعي تغييراً جذرياً في المفاهيم والرؤى والسياسات وفلسفة الحكم وبناء المؤسسات الحديثة، فوق ركام الأطلال من ناحية، وفوق كثير من الإنجازات الإيجابية التي تحققت خلال السنوات الأخيرة، على رغم صعوبة وفداحة الثمن الذي دفعه الشعب فيها، من قوته ودمه ودموعه، من ناحية أخرى...
ولقد فعلت مصر ذلك مرتين في العصر الحديث، فعلى مدى نحو قرن ونصف القرن وبضع سنين، وتحديداً من 1805 إلى 1952، جربت مصر بناء الدولة الحديثة، وأمامنا نموذج محمد علي في القرن التاسع عشر، ونموذج جمال عبدالناصر وثورة يوليو/ تموز 1952 في القرن العشرين، كلاهما كان يمتلك مشروعاً لإعادة اختراع مصر الحديثة، وكلاهما بنى دولة مركزية، وفق رؤية سياسية تمتد نحو الأفق العربي، كلاهما تبنى برامج تنفيذية محددة للإصلاح والنمو والعناية بالزراعة والصناعة وتقوية رأس مالية العولمة، والانفتاح على الثقافات الأخرى، ثم بناء قوة عسكرية قادرة على حماية أمن هذه الدولة الحديثة...
لكنهما وقعا معاً في خطأ إهمال العمل الديمقراطي الشعبي، لصالح بناء الحكم المركزي القوي في دولة عاشت في الماضي على المركزية، مركزية النهر ومركزية القصر...
وكانت النهايات واحدة، حين رأى الغرب الاستعماري أن دولة مركزية - وهي مصر - تلتحم بشقيقاتها العربيات، لتشكيل قوة استراتيجية في منطقة مزدحمة بالثروات والصراعات، هي خطر ماحق على المصالح الغربية... فتقرر تصفيتها...
الآن... هل تستطيع مصر إعادة اختراع نفسها، أو بناء الدولة الحديثة من جديد، على رغم كل ضغوط المناخ الإقليمي والدولي ومتغيرات وضوابط قوته الامبراطورية المنفردة بالقرار والاحتكار، وعلى رغم الضعف البادي في بنيان الدولة القائمة؟...
والإجابة «نعم» تستطيع وفق شروط محددة، وأول هذه الشروط أن تنتفض من الداخل، لتزيل الركام والحطام، وتبني بناء حديثاً برؤية سياسية شاملة، لكن شرط الشروط هو استعادة الحريات وتفعيل الديمقراطية الحديثة، التي كان غيابها من نقائص تجربتي محمد علي وعبدالناصر وغيرهما...
نعلم أن لغطاً كثيراً يدور حول التطوير والإصلاح الديمقراطي في مصر، ونعلم أن هناك مشروعات تُعد وقوانين تُصاغ باسم الإصلاح الديمقراطي، وهذا مفيد وإيجابي، لكن ما ندعو إليه هو إعادة صوغ العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين الشعب والحاكم، وهو توسيع المشاركة بالاعتماد على قوة الشعب وليس قوة الحاكم وحده، على رأي الناس وليس رأي النخبة المفضلة، وهو الانتقال من مرحلة بناء قوة النظام وهيبة رأس النظام، إلى بناء قوة المجتمع وهيبة مؤسساته، وفق فلسفة جديدة وحديثة وديمقراطية للحكم، تضع قدسية الدستور والقانون العادل فوق كل الرؤوس، التي يجب أن تتساوى وتتوازن أمام صندوق الانتخابات النظيفة والنزيهة، مثلما أمام القضاء النزيه والعادل الحاسم...
ونحسب أن الوقت الجاري هو أنسب الأوقات، لإحداث هذه النقلة التاريخية، إذ ضغوط الأزمة الداخلية من ناحية، وضغوط الابتزاز الخارجي من ناحية أخرى، يجب أن تدفع نحو المبادرة بالإصلاح الديمقراطي وفق رؤية سياسية فكرية وطنية، ويجب ألا تدفع إلى التهرب أو التسويف والتأجيل، لأن ذلك سيؤدي حتماً إلى الكارثة، وخصوصاً إذا تضافرت أزمات الداخل مع ضغوط الخارج...
ونحسب أن الرئيس حسني مبارك هو المؤهل الأول لطرح مبادرة إصلاحية جذرية، تتجاوز مبادرة الحزب الوطني الحاكم، وتلتقي مع المبادرات الوطنية الكثيرة الأخرى، مبادرة تدعو إلى مؤتمر وطني يشمل كل القوى السياسية والفكرية والاجتماعية، يتحاور بشأن رؤية فكرية للإصلاح وبرنامج تنفيذي للإصلاح، يقومان على إطلاق الحريات وضمانات الديمقراطية، وإلغاء المعوقات والقوانين الاستثنائية، ثم الاتفاق على صوغ دستوري ديمقراطي جديد...
وأمر مثل هذه المبادرة، لا يتعلق بمصر وحدها في مثل الظروف الراهنة، ولكنه يتعلق بالمنطقة العربية كلها، المتهمة بالاستبداد والفساد، فضلاً عن التخلف والتطرف والإرهاب، ذلك أن مصر حين تُعيد اختراع وضعها وتحديث ظروفها وتحسين أدائها، إنما تقدم قدوة لأشقائها، تغنيهم عن «نماذج الإصلاح المعلبة» التي تصرّ أميركا على عرضها في أسواقنا الاستهلاكية هذه الأيام، وتجد من يسوقونها ببراعة، بعضهم يسوّقها إيماناً بكل ما هو أميركي، وبعضهم الآخر يسوّقها نكاية بالنظم العربية وإغاظة لها!
مرّة عاشرة، لن نستطيع أن نصل إلى النهايات السعيدة، إلا إذا بدأنا البدايات السليمة، أما اللغط اللفظي والتنظير الكهنوتي والرطانة الفارغة، التي تغرقنا في دواماتها الدعائية، عن الإصلاح التجميلي والديمقراطية الشكلية والإسراع في الخصخصة وبيع ما تبقى من ثروات المجتمع، والالتحاق سريعاً بقطار أميركا السريع، والاندماج في حلف الأطلنطي، وتجاهل الخطر الإسرائيلي إرضاء لسياسات واشنطن، فهي شوشرة لتغطية الهروب من مواجهة الأزمات، والتحايل على ا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 698 - الثلثاء 03 أغسطس 2004م الموافق 16 جمادى الآخرة 1425هـ