ماذا وراء كل هذه الأرقام؟ كل شيء موجود في الصحف. صفحاتها الاولى مليئة بالأرقام، والمسئولون اذا ارادوا الحديث عن انجازات أو عن المستقبل فلا وسيلة سوى الأرقام.
أنفقت الدولة كذا من الدنانير على هذا المشروع، بنت الدولة كذا ألف من الوحدات السكنية خلال كذا من السنوات. مشروع بقيمة كذا من الدنانير ويوفر مئات أو آلاف الوظائف. 10 مشروعات سياحية توفر 2000 فرصة عمل. لا تذكر أرقام المشروعات إلاّ متبوعة بعدد الوظائف التي يمكن ان تخلقها. واذا ما قام مسئول بزيارة لهذه القرية أو تلك المدينة، فلابد من اهداء البشرى بالارقام ايضا: 1000 فرصة عمل لابناء القرية أو هذه المنطقة في هذا القطاع أو ذاك.
في الثمانينات، كان مسئولو وزارة الصحة عندما يواجهون بالشكوى من سوء خدمات قسم الطوارىء يطالعوننا في اليوم التالي بالاحصاءات: «القسم يستقبل مئات المرضى في اليوم وآلافاً في اسبوع وآلافاً مؤلفة في الشهر، وآلافاً مضاعفة في العام.
على نحو ما، يبدو لي ان لدى البلد مشكلة مع الأرقام. هل تذكرون انكم قرأتم شيئا عن البحرنة بعيدا عن النسب المئوية؟ نسبة البحرنة في هذه الوزارة 80 في المئة وفي تلك 90 في المئة. امتدت العدوى إلى القطاع الخاص. ما إن يعلن مشروع اقتصادي او تجاري الا ويكون متبوعاً بواحد من اثنين: عدد الوظائف التي «سيوفرها لابناء البلاد» أو نسبة البحرنة في الشركة التي تملكه وتديره.
لنترك الثمانينات والتسعينات إلى مرحلة التحولات الكبرى. هل تغير الأمر كثيرا؟. ثمة رقم واحد نعتز به: 98,4 نسبة التصويت على ميثاق العمل الوطني. استحدثت وزارة الاعلام اذاعة خاصة تبث على موجة خلدت هذه النسبة غير المسبوقة في تاريخ أي شعب وشاهدناه يزين الطائرة الملكية.
لكن عندما جئنا الى الانتخابات والجدل الذي ترافق معها، عاد هوس الارقام ليلف الجميع. نسبة الاقبال لدى الحكومة ونسبة العزوف لدى المعارضة. خلف هذا الهوس بالارقام والنسب وفي أقاصى الوعي، يتبدى مفهوم رائج للديمقراطية يعبّر عن نفسه من حين إلى آخر في الكيفية التي يديرون بها الجدل. ما هي الديمقراطية: «الغالبية والأقلية».
لم تنجُ ديمقراطيتنا الوليدة من هوس الارقام الذي اختزلها من مفهوم شامل إلى مفهوم كمي محدود ومبتسر.
يتبدى هذا جلياً في جدل «التجنيس» بدءاً من الدوافع التي أفضت إلى الافتعال فيه وانتهاء بالشكوى منه. لا يمكن رد هذا الجدل الا إلى هذه الهواجس التي تحول الناس والحاضر والمستقبل الى مجرد ارقام ونسب مئوية. اما الشفافية والعدالة فقد باتت مرقمة ايضا ومحكومة بالنسب: كم من الشيعة وكم من السنة. ولا أحد يسأل اين الكفاءة.
في خضم جدل الحكومة والمعارضة، فان الاثنين لا يجدان مناصا من القول بأنهما يمثلان غالبية الناس. وبين غالبية الحكومة وغالبية المعارضة ظهرت مفردة تدل على غالبية اخرى يسمونها «الغالبية الصامتة». واذا شاء نواب الشعب الحديث عن ذلك النوع من المشروعات التي تنحى دوما لضبط حياة الناس بالمسطرة شاملا اشكالهم ولباسهم والطريقة التي يظهرون بها في الشارع وحرياتهم فان الحجة جاهزة: شعب البحرين مسلم، أو في استدراك ملطف: غالبيته مسلمة.
هوس الارقام هذا لا يفعل سوى ان يحولنا كمواطنين إلى مجرد أرقام: المرضى في عرف وزارة الصحة في الثمانينات (وربما حتى اليوم) مجرد ارقام، ألا يفسر هذا شيئا من الشكوى المريرة من الخدمات الصحية؟ ألا يفسر غياب البحث العلمي او التخصص في أمراض مستوطنة؟ ألا يفسر غياب المستوى والنوعية والكيف في هذه الخدمات على رغم وجود بعض الاطباء المهرة؟ ألا يفسر ذلك النوع من النزق والاكفهرار الذي يعتري وجوه الاطباء والممرضين؟ فالمرضى بالنهاية مجرد جموع، كم هائل يتعين تخفيفه.
الحال نفسه مع البحرنة، فالالحاح على النسب والوظائف التي سيوفرها هذا المشروع والفرص المتاحة في هذا القطاع او ذاك، اشارة خفية إلى رغبة التخلص من الكم الهائل والجموع التي تنتظر الوظائف.
سياسيا، اترك الباقي لخيالكم وذكائكم، وليس في ذهني سوى مثال أتحاشى تطيّراً أو تشاؤماً أن أورده: «لبنان»
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 697 - الإثنين 02 أغسطس 2004م الموافق 15 جمادى الآخرة 1425هـ