الحديث عن الصناديق الخيرية والانتقادات المتكررة في الفترة الأخيرة بالتركيز على طابعها «الطائفي»، إنما هي عملية «تسييس» غير مقبولة، فضلاً عما يكشفه ذلك النقد من عدم استيعاب لآلية العمل التطوعي، وما يواجهه في هذا الزمان من تحديات وصعوبات، والبحر الذي يسبح فيه.
لنبدأ بالشخص الذي يتطوع للعمل الخيري إنما يتطوّع بدافع المثوبة والأجر، ليس أمامه شيء اسمه «وطن» ولا عسكر ولا حرامية، فهو فارغ الذهن إلاّ من العمل على سدّ حاجات الأسر والعوائل التي أنهكها الدهر، ففقدت العائل أو ضاقت عليها سبل العيش، فانعكس على حياتها ومأكلها وأطفالها ودراستهم ومستقبلهم... إلخ. عندما يرى بعينيه مثل هذه المآسي تحرّكه العاطفة الانسانية لعمل ما يمكن عمله. الموارد محدودة بمحدودية موارد المجتمع الذي يعيش فيه، وعليه أن يدبّر حاله في هذا الواقع المرير.
والمتطوّع الذي يترك منزله وعائلته وأطفاله و«يداوم» في مقر الصندوق ليلة أو ليلتين أو أكثر، ويضحّي بسعادته الأسرية، مثل هذا الشخص لابد أن يكون له دافع من نوعٍ خاصٍ جداً، لا يمكن تقييمه بالمال، فلو دفعت له راتباً شهرياً للقيام بالعمل نفسه في مكانٍ آخر لما أغراه، إنما هو قائم على الرغبة في أجر الآخرة وتحقيق راحة الضمير، وهو ما لا يرد في دستورٍ ولا قانونٍ ولا ميثاق.
مثل هذا الشخص لا يبحث عن مكافأة بداية ولا نهاية خدمة، ولا يفكّر في «انتزاع» راتب تقاعدي بالحيلة و«الدغلباز» من أموال الناس، تحت مسميات تأمين مستقبل «نوّاب الشعب»! مثل هذا الشخص يعمل تحت جنح الظلام لتوصيل المعونات للأسر البائسة والتي تعيش تحت خط الفقر، والتي لا تدخل تحت تصنيفات وزارة العمل ولا الأمم المتحدة، في هذا البلد النفطي. هناك شريحة لا تقل عن عشرة في المئة في بعض المناطق تعيش تحت هذا الخط، وهناك نسبة منهم لا يوجد لها دخلٌ بالمرة، يقوم جيرانهم بمساعدتهم من دون معرفة حتى الصناديق أحياناً. هذا هو الواقع الذي لم يسمع به الداعون لإخراج الصناديق من «شرنقاتها الطائفية».
الصناديق وظيفة وليست ديكوراً
ويجب أن نقرّ انه ليست لدينا «ثقافة وطنية» جامعة، السياسة السابقة لم تتح المجال لزرع مثل هذه الثقافة في الوطن. هذه حقيقة يجب ألاّ نتغاضى عنها أكثر مما تغاضينا فنكذب على أنفسنا ونكذب على من يهمه أمر الإصلاح. مثل هذه الثقافة يجب استنباتها على مكثٍ، وفي رويّة وتؤدة. الثقافة الوطنية لا يمكن «فبركتها» على طريقة وزارة الإعلام في ترويج مايسمى بـ «الأغاني الوطنية». كذب الظانّ لذلك. الثقافة الوطنية لن تخلقها هذه الوزارة المترفة المشغولة بتنظيم حفلات «الأغاني الوطنية» بعد أن رصدت لها من أموال الشعب تلك المبالغ الطائلة من دون مراجعة أو مشورة أحد. الثقافة الوطنية يبدأ تشكّلها بالحل السحري البعيد المنال حالياً: العدل والمساواة وسيادة القانون على الجميع. حينما يشعر المواطن انه ليس هناك أناس فوق القانون وناس تحت القانون. حين يشعر المواطن انه ليس هناك أبناء متنفذين يهربون من السجن فلا يطالهم العقاب، وآخرون يدخلونه بتهمة توقيعٍ على عريضة. عندما لا يُوقف المواطن البسيط لانه وضع على زجاج سيارته الرايبون، بينما تمر سيارة الشبح كالغمامة السوداء فلا يجرأ على إيقافها شرطي المرور.
الثقافة الوطنية تبدأ من هنا، أما أغنيات «عمري يا بحرين»، و«عاشت البحرين»، فهي أعجز من خلق روح الانتماء والشعور بالمواطنة.
لا ننسى ان الصندوق الخيري مؤسسة، والمؤسسة «وظيفة» وليس ديكوراً. والوطن لا يحتاج إلى مزيدٍ من الديكورات، التي تعطي انطباعاً بالاندماج الكاذب، والوحدة التي تعيش في الخيال. الوطن بحاجة إلى تلك الروح الصادقة المخلصة، التي تحرّك العمل في الصناديق. ولكي لا تختلط الأمور، ولكي نكون واضحين جداً، وشفافين جداً، ليس من مهمة هذه المؤسسات «خلق الهوية الوطنية» عبر برامجها الخيرية. كما لا يمكن خلطها مرة أخرى بمقارنتها بمؤسسات ذات طبيعة وأهداف أخرى، مثل الجمعيات الشعبية أو الأهلية التي تسعى لتعزيز المناطقية هنا أو هناك. وإذا لم تستطع هذه المؤسسات الخيريةتحقيق أهدافها فلأسباب أخرى، من بينها ضعف الدعم الرسمي والأهلي لها، وفرض ضريبة على تبرعات المتبرعين في أحد المصارف الوطنية الكبرى، وهو القرار الذي مازالت تعاني من تطبيقه الكثير من هذه الصناديق.
الصناديق تسير على منهاج واضح ولتحقيق أهداف محددة، وليس مكتوباً في دساتيرها «تنمية الروح الوطنية»، وإنما رسالتها تختصر في كلمتين: إغاثة الفقراء
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 697 - الإثنين 02 أغسطس 2004م الموافق 15 جمادى الآخرة 1425هـ