تكرّر في الآونة الأخيرة الحديث عن أحد أهم وأنشط المؤسسات «المدنية» الفاعلة والنافعة في المجتمع، وهي الصناديق الخيرية، وتم الدخول إلى هذا الموضوع من الباب الأضيق على الإطلاق، وهو الباب الطائفي المقيت. وكم كان بودّي ألا يتم إقحام «السياسة» اللعينة في هذا المجال، فهي ما دخلت بيتاً إلاّ أشاعت فيه الفساد.
الحديث عن الاتحاد والابتعاد عن الطائفية والمناطقية حديث رومانسي جميل، يتمنى تحقيقه الجميع، ولكن الحديث الذي يتناول الحياة الاجتماعية يجب ألاّ يكون بعيداً عن الواقع إلى درجة السباحة في الخيال، فضلاً عن الابتعاد عن ملامسة واقع هذه التجارب المشرّفة.
حتى لو تم تحقيق هذا الحلم الرومانسي الجميل في مجال العمل الخيري التطوعي، فإنه لن يغيّر من واقع البلاد شيئاً. ولنتكلم بصراحة متناهية: الطائفية واقعٌ قائمٌ في حياتنا كلها، نمارسه ونتنفسه ونعيشه ونتآلف معه، من وزارات وسياسات توظيف وجمعيات سياسية وأندية و... ولا يمكن إلغاؤها بالأماني الطيبة والكتابات الرومانسية السابحة في الخيال.
ثم إن الطائفية ليست وليدة تجارب الصناديق الخيرية ولن تزول بتصحيح أوضاع هذه الصناديق، وإنما هي نتيجة تراكمات وأخطاء مازالت البلد تعاني من تبعاتها. ولا أريد أن أوجّه اصبع الاتهام إلى طرفٍ «فكلنا عن ضياع القدس مسئول»، كما قال الشاعر، والقضايا العامة معروفة ومحفوظة المطلع والختام، ولكن عندما نتحدّث عن تجارب الصناديق الخيرية علينا أن نكون موضوعيين: ننصفها، نقيّمها في إطار عملها، ننقد أداءها قصوراً وتقصيراً، لا أن نحمّلها فوق طاقتها، أو نطالبها بتحمّل أعباء وأخطاء وخطايا الآخرين، حكومة وجمعيات وسياسة، بل وواقعاً اجتماعياً قائماً بكل أثقاله الموروثة من عقود.
لا تخلطوا الطين بالعجين
بدايةً، لابد من فهم أن العمل الخيري طابعه «ديني»، وليس «وطنياً»، لكيلا نخلط الأمور وندخل السياسة فيما لا شأن لها به. والعمل الخيري من المواريث الكريمة التي زرعها فينا ديننا الحنيف. وليست هناك «عقيدة وطنية» يمكن أن تقنع شخصاً بإخراج دينار واحد من جيبه ليتبرع لشيء غامض اسمه «وطن»، حتى الطابع الخيري الذي قيمته 10 فلوس (قيمة نصف رغيف) إنما يدفعها الناس قسراً لا اختياراً، لكن ما يعجز عنه «الوطن» انما يقوم به الدين عندما يقنع المؤمن بتعاليمه بإخراج الزكاة والخمس والصدقة من خالص ماله وأرباحه، بل ويقتطعها من قوت عياله أو وجبة عشائه عن طيب خاطر. وكم نعرف من الناس الذين يتبرعون بما في جيوبهم من مال قليل على حساب عوائلهم، حباً في الخير والثواب الموعود من السماء.
فمادام الأمر كذلك يصبح من الخطأ خلط الطين بالعجين. فلا تُدخِلوا السياسة اللئيمة في العمل الطيّب الخالص لله. إنكم إن تفعلوا فستخسر البلدُ الحمارَ ولن تربح الجوالق، أي الاوعية (وفي رواية أخرى الجردقة: الرغيف وفي ثالثة البندق). والنتيجة أن المجتمع سيخسر العمل التطوعي ولن يربح الوطن شيئاً، غير إفشال هذه التجارب الناجحة إلى حدٍ بعيد.
ليكن العمل التطوعي قائماً على أساس مناطقي، ما الإشكال في ذلك؟ فأنت لا تستطيع أن تجبر أحداً ليعمل خارج منطقته. أنت لا تستطيع أن تنقل متطوّعاً من المنامة ليعمل في الحد، ولا جابياً من الرفاع ليعمل في سترة، بل إن أساس العمل قائمٌ على التواصل والتراحم، وهو قائمٌ في جزء كبير منه على الجانب العاطفي والانساني، المعتمد على معرفة أهل المنطقة التي انبثق العمل منها ويعود إليها، لإنقاذ اوضاع الأسر والعوائل التي تعاني من ضعف الوضع الاقتصادي.
لننتظر خمسين عاماً أخرى، على أمل أن تتعافى السياسة في بلادنا، و«يعقل» السياسيون، وتسير الأوضاع نحو الأحسن، ويتم تقليم أصابع الفساد، ويسود حكم القانون على الجميع، وتكون المساواة بين الناس حتى على مستوى وضع «الريبون» وتوزيع المخالفات على السيارات... حينئذٍ سيكون من حقنا أن نحلم بصناديق خيرية مشتركة، ولا تنسوا أن الصناديق، مثلها مثل اية هيئات اجتماعية أخرى، إنما هي نبتة طبيعية من نباتات هذا المجتمع. فوفروا نصائحكم إلى عباقرة السياسة في بلادنا حتى تصلح الأوضاع
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 696 - الأحد 01 أغسطس 2004م الموافق 14 جمادى الآخرة 1425هـ