هناك تكتيكات للكراهية لا تختلف كثيراً عما يسميه عالم المستقبليات الأميركي ألفين توفلر بـ «تكتيكات المعلومات»، وهي تكتيكات يستخدمها الفاعلون السياسيون والاجتماعيون لتحقيق مآرب معينة بحيث تستفيد الجهة التي تقف وراء هذه التكتيكات من الانفعالات المضادة أو الانعكاسات والتفاعلات التي ستنتج عنها. وقد لاحظ توفلر أن عصر الإعلام الفوري قد أغرقنا بكم هائل من المعلومات والصور، إلا أنه جعل «معرفة حقيقة ما يجري أصعب بالنسبة لكل الناس، بما في ذلك القادة السياسيين». وهذا يعني أن الوصول إلى المعلومات الحقيقية والتمييز بين المعلومات الحقيقية والمزيفة، كل هذا أصبح صعباً بالنسبة لعموم الناس. وهو ما سمح بالتلاعب بالمعلومات واستغلالها وتوظيفها لخدمة أغراض محددة، بحيث أصبح هذا النوع من التلاعب تكتيكاً متداولاً ويستخدمه «كل من يعنيهم الأمر من السياسيين والبيروقراطيين والعسكريين وجماعات الضغط الاقتصادية، فضلاً عن المدّ الصاعد من جماعات المواطنين. أي إنهم سيقودون «لعبة السلطة» مستخدمين وسائل قائمة على التلاعب بالمعلومات» (تحول السلطة، ص37) أو التحكم بها أو المناورة بها أو مراقبتها أو تسريبها بشكل موجّه ومقصود. ويرصد توفلر تكتيكات متنوعة في هذا الشأن، فهناك تكتيك السرية والمصدر المقنَّع والتسريب الموجّه للمعلومات والقنوات الخلفية والقناة المزدوجة، وهناك، كذلك، تكتيك الصدمة المرتدة حيث «يتم نشر نبأ كاذب في بلد بعيد وتقوم الصحافة الوطنية بترديد هذا النبأ» لتبدأ التفاعلات بعد ذلك. وهناك تكتيك الكذبة الكبرى وهو تكتيك يعتمد على حقيقة تقول بأن «الكذبة عندما تكون ضخمة يسهل تصديقها»، وهذا على خلاف ما يحدث حين يتمّ تجزيء هذه الكذبة الكبرى إلى «عدد من الأكاذيب الصغيرة العادية».
تكشف هذه التكتيكات عن حقائق بالغة الخطورة على مستقبل الديمقراطيات، حيث فقدت المعلومات والحقائق الكثير من قدسيتها وقيمتها الاعتبارية التي كانت تتمتع بها في الديمقراطيات العريقة والمحترمة، بدليل أن المعلومات أصبحت عرضة للتلاعب والمناورة والخداع. إلا أن هذه التكتيكات تكشف حقيقة أخرى هي أخطر من سابقتها، وهي أن الدولة (بما في ذلك الدولة الديمقراطية) أصبحت تدار بعقلية ميكافيلية صرفة بحيث يصبح كل تلاعب جائزاً من قبل الفاعلين السياسيين من أجل إسقاط الخصوم والبقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة حتى لو كان ذلك على حساب الرأي العام وحقه الأصيل في الاطلاع على المعلومات. وهذا يمسّ «لبّ العلاقة بين الديمقراطية والمعرفة، فمن الأمور المعترف بها بشكل عام أن الرأي العام المطلع هو أحد الشروط الضرورية للديمقراطية»، إلا أن أحداً من هذا «الرأي العام» لم يعد بإمكانه الاطلاع على شيء؛ لأن كل المعلومات أصبحت سرية وتدار داخل كواليس الدولة وبيروقراطية أجهزتها المعقدة، وإذا حصل أن اطلع الرأي العام على حفنة من المعلومات فلن يكون بإمكانه التحقق من كون هذه المعلومات «حقائق» أم مجرد «أكاذيب»، كما أن هذا الرأي العام أصبح مستهدفاً بالتلاعب والخداع من قبل دولته ذاتها، وذلك عبر تكتيكات المعلومات المتعددة التي يرصدها توفلر. أضف إلى هذا أن كثيراً من الأنظمة السياسية في العالم تنبّهت إلى أن تفتيت الرأي العام الموحد ليكون مجموعة آراء عامة مجزّأة ومشتتة إنما يعود عليها بفائدة كبيرة لا تعوّض؛ لأن هذا التفتيت سيخفّف من قوة ضغط «الرأي العام الموحد المطلع على الحقائق»، كما أنه سيخرج هذه الأنظمة من المعركة التي ستتحوّل لتكون مواجهة بين هذه الآراء العامة المجزّأة لا بين الرأي العام الموحد والأنظمة الحاكمة. وعندئذٍ لن يمثّل انكشاف الحقائق والمعلومات أية خطورة على هذه الأنظمة التي صار بإمكانها أن تلعب دور المتفرّج على هذه المواجهة أو حتى دور الحَكَم الذي يرجع إليه الجميع ليفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.
والكراهيات، في أصلها، هي حزمة من المعلومات والأخبار والوثائق والصور والوقائع والأحداث. وهي إما أن تكون مخزّنة وجاهزة للاستخدام من دون معالجة، وإما أن تكون مختلقة وملفقة ومفبركة وبحاجة للمعالجة والتوضيب لتكون جاهزة للاستخدام كسلاح في معركة الصراع السياسي على السلطة. ويمكن رصد الكثير من تكتيكات الكراهية تماماً كما عمل توفلر مع تكتيكات المعلومات. إلا أن الحاصل أن معظم تكتيكات الكراهية يمكن اختزالها في تكتيك واحد، وهو تكتيك التسريب الموجّه للكراهيات، ويتم في هذا التكتيك تسريب كراهيات معينة بشكل موجّه وسري وعبر قنوات خلفية، وأحياناً يتم ذلك عبر قنوات علنية إلا أنها مجرد واجهات لجهات سياسية أخرى خفيّة ومقنّعة، وقد تكون هذه الواجهات صحفاً وفضائيات وشخصيات عامة كبعض النواب والسياسيين الانتهازيين الذين هم تحت الطلب في أي وقت.
هذه كراهيات مصطنعة وملفّقة، لكنها قاتلة أو يمكن أن تتحوّل إلى كراهيات قاتلة في أية لحظة. إلا أن ثمة نوعاً آخر من الكراهيات المصطنعة «لا تقتل فحسب بل تبيع أيضاً»، بمعنى أن ثمة كراهيات مصطنعة لكنها مربحة ويمكن استثمارها في مراكمة المكاسب الشخصية التي تأتي لتجّار الكراهية بمزيد من الشعبية والشهرة والفرص. ويمكن التذكير، هنا، بحكاية المذيع الأميركي بوب غرانت الذي طُرِد من محطة WABC الإذاعية بعد تعليقه المسيء إثر حادثة سقوط طائرة رون براون في 3 أبريل/ نيسان 1996. إلى هنا والحكاية عادية، إلا أن لحكاية غرانت بقية تجعلها مختلفة عن غيرها من حكايات الكراهية؛ لأن هذا المذيع اليميني الذي خلق له شعبية واسعة بسبب الشتائم التي كان يوزّعها على السود والأقليات في الولايات المتحدة الأميركية لم يجد صعوبة في الحصول على فرصة عمل أخرى بعد طرده من WABC، إذ سرعان ما «استأجرته محطة منافسة بعد أسبوعين فقط» من طرده. والكراهية التي رفعت من قيمة غرانت التداولية في سوق الإعلام قادرة على أن ترفع من قيمة أي إعلامي في أي بلد تنتعش فيه صناعة الكراهية وتجارتها. ويذكر تودوروف أن الصحيفة الهجائية في فرنسا «شارلي- إبدو» قامت في فبراير/ شباط 2006 بنشر الرسوم المسيئة للرسول، «فزاد مبيع هذا العدد من الصحيفة عشرة أضعاف، إذ ارتفعت نسبة المبيعات من 60000 عدد إلى 600000 تقريباً» (الخوف من البرابرة، ص152)!
يتجلّى هذا الهوس بالكرهيات المصطنعة المربحة أكثر ما يتجلّى لدى الساعين وراء المكاسب السياسية، والانتخابية على وجه الخصوص، حيث تتحوّل الكراهيات المصطنعة لدى هؤلاء إلى «رأس مال» يُطرح في سوق تداول الخطابات «القذرة» ليعود على أصحابه بمزيد من الشعبية وتعاظم الشهرة وفرص الفوز والصعود. أليس لافتا أن أكثر عمليات التحريض على الكراهية اليوم إنما تجري كجزء من حملة الدعاية الانتخابية؟ أليس لافتاً حقاً أن أكثر المحرّضين على الكراهية هم من نواب البرلمانات أو الطامحين للفوز بمقاعد في البرلمانات أو في سدة الحكم؟ وهذا لا ينطبق على دول عربية كالبحرين والعراق فقط وهي بلدان تمكّنت بعض الشخصيات فيها من دخول مجالس نوابها لا بفضل شيء سوى كفاءتها في إثارة الكراهيات الطائفية والعرقية والتحريض عليها وقت الحاجة أو وقت ما يطلب منها ذلك، أقول بأن هذا لا ينطبق على هذه الدول فحسب، بل هذه حالة عامة حول العالم، وفي أوروبا تعبّر هذه الحالة عن نفسها في صعود اليمين الأوروبي المتطرف الذي لم يكن ليتردد في التوسّل بالكراهيات المصطنعة ضد الأجانب والمسلمين كحيلة أو كدعاية انتخابية تعود عليه بمزيد من الشعبية والشهرة، ومن ثم بمزيد من أصوات الناخبين. تتحوّل الكراهية، هنا، إلى سلعة، وأصوات الناخبين هي الثمن الذي يطمح تجّار الكراهية إلى قبضه. ولهذا فليس غريباً أن نجد أن معظم الكراهيات المنفلتة حول العالم إنما تصدر عن نواب أو مترشحين يمينيين أو عنصريين أو طائفيين لم يبق أمامهم من أمل للفوز بالمقعد النيابي أو بتولي السلطة سوى إشهار سلاح الكراهية ضد الآخرين. والغريب أنه سلاح فعال وقلما يخطئ هدفه.
هذه، إذن، كراهيات مصطنعة «لا تقتل فحسب، بل تبيع أيضاً»، وتأتي بمكاسب وأرباح شخصية وانتخابية وتخلق شعبية وشهرة ما كان صاحبها ليحلم بها من دونها. وإلا تخيّلوا القيمة الحقيقية لـ «نوّاب الكراهية» من دون هذه الشتائم التي يوزّعونها يومياً في تصريحاتهم وبياناتهم ومواقفهم، ماذا سيبقى لدى هؤلاء لو انتزعنا من بين أيديهم خطاب الكراهية سوى الخواء وشخصياتهم الجوفاء؟!
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2790 - الإثنين 26 أبريل 2010م الموافق 11 جمادى الأولى 1431هـ
أبدأ بنفسك
ابدأ بنفسك وازل الكراهية منها قبل ان تنتقد غيرك
مع التحية
لصاحب القدرة الفذة على التنظير والتجريد, لكي نرى بمنظار آخر.
ابن ماجد
أنا زميلك في التعليم لكني لا أفقه كثيرا مما تقو ولا أجد كلمة أصدق من طيب الله أنفاسك وبارك الله فيك
الكراهيــــات ... المُتلوّنــــــة
إنه لمن الدهشة أن تُكرّس–- للكراهيات دوراً بالغ الأهمية،بتوغّلها المُبطّن ومن ثم التطويق الميكروبي المُبرعم بالحقدية،فهي عُصارة مطرقة التكتيك وسندان القشرية،وقد تكون نسخة مُستنسخة لتجارب ونزعات طاغوتية ومُتشبثة بالتبريرات المُنحطّة والملتوية،فالكراهيات كالحرباء المُتلوّنة بحسب الأمكنة والأزمنة وفي أطوارها الانتقالية الفوضوية،وهل ثمة رؤية جوانب (حضارية ،تقدمية،تنموية بشرية) إيجابية إن لم تكن جُلّها سلبية. " حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ". كل الشكر للكاتب وللوسط ... نهوض
عمق الموضوع و سخف التعليقات!!
تنظير و تحليل و طرح امثلة واقعيةُ غايةُ في الروعة، تقابلها سطحيةٌ في التعليق....
سؤال؟؟؟؟
نواب الكراهية الذين لا يحمل بعضهم حتى الثانوية قد تم ترفيع احدهم من اعلا قمة في الدولة وقالوا عنه انه منا آل .... لا لعلمه ولا لعبقريته ولا لمألفاته بل يسب الخواؤ في شخصيته الجوفاء لا يعرف الا السب في طائفة عريقة وكبيرة من هذا الشعب .
حسافه يالبحرين
من غير أي تكتيك, أنا أكره كل المستوطنين في البحرين
لماذا
لماذا لا تتجرأ وتذكر الشخصيات الخفية والأسماء الصريحة للواجهات في البلد